دولة الخلافة الراشدة (2)
امتدت الخلافة الراشدة من عام 11 هــ – 40 هــ، ولعل أبرز ما يميزها عما جاء بعدها من دول إسلامية هي طريقة اختيار الخلفاء، والحرص على اختيار الأفضل، ومبايعة الناس لهم عن قبول ورضا، ونعرض فيما يلي الطرق المختلفة التي تولى بها الخلفاء الأربعة، ونحدد القواسم المشتركة بين هذه الطرق، وكذلك أوجه الخلاف، وأبرز ما أثير حولها من شبهات.
همّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يعهد إلى أبي بكر بالخلافة قبيل وفاته، وكان يراه أحق الناس بذلك، وما منعه من ذلك إلا لقناعته أن المسلمين لن يختاروا غير أبي بكر، وليشرع لهم اختيار أمرائهم برضاهم. فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت -أو أردت- أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد؛ أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون)َ. رواه البخاري ومسلم، ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلفه أبو بكر في الصلاة عند مرضه، لتكون علامة للناس أنه خليفة رسول الله، بل غضب أشد الغضب عندما أمّ غيره بالناس. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليؤمروا سيد الخزرج سعد بن عبادة، فناقشهم المهاجرون، وبينوا أن الخلافة في قريش، ولن تجتمع العرب على غيرهم، ورفضوا أن يكون للمسلمين خليفتين أحدهما مهاجر والآخر أنصاري، بل الأمراء من قريش والوزراء من الأنصار، وما أسرع ما اتفقوا على ذلك. ولو جمع كل ما جاء في الروايات التاريخية من نقاش في السقيفة ما جاوز نصف ساعة من الزمان، فكان أن بايع عمر وأبو عبيدة لأبي بكر، ثم بايعه المهاجرون ثم الأنصار، ثم في اليوم التالي تمت بيعته العامة في المسجد، فكانت تجتمع عليه العصابة من الناس، فيقول لهم: (بايعوني على السمع والطاعة لله ولكتابه ثم للأمير)، وبعد هذه البيعة قام في الناس خطيبا، فحدد سياسته العامة، التي التزم بها رحمه الله في حياته، وسار عليها خلفاؤه الراشدون من بعده، فقال: (أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله) رواه ابن هشام في السيرة باسناد حسن. ولشدة حرص الصحابة على اجتماع أمر المسلمين على أمير، انشغلوا عن دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى بايعوا لأبي بكر، ولذلك لم يتخلف عن بيعة أبي بكر العامة غير علي والزبير الذين انشغلا بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بايعا بعد ذلك.
وعندما حضرت الوفاة أبا بكر، خشي الموت ولما يتفق المسلمون على أحد لخلافته، فيحدث بينهم الشقاق، فشاور كبارهم فيمن يخلفه، ولم تختلف كلمتهم أن أحق من يكون بعده عمر بن الخطاب، وشاور أبو بكر عثمان بن عفان وأشار عليه بعمر، فأمره فكتب كتابا يوصي فيه إلى عمر. ولما توفي أبا كر قرأ الكتاب وبويع لعمر من عامة الناس، لقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، بل بشارة النبي بخلافته وظهور الإسلام وقته، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت الناس مجتمعين في صعيد، فقام أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين، وفي بعض نزعه ضعف، والله يغفر له ثم أخذها عمر فاستحالت بيده غربا – دلو كبير – فلم أر عبقريا في الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن) رواه البخاري ومسلم، ويدل على الصعوبات وقصر فترة خلافة أبي بكر، يقابلها طول خلافة عمر واستقرار الأمر في عهده.
وعندما طعن عمر بن الخطاب، وظن أن أجله قد قرب، لم يرغب أن يعهد لأحد بعده، فيناله أثمه إن أخطأ، ولم يرد أن يترك الأمة ولما تقرر من يخلفه من بعده فتختلف، فتفتق ذهنه عن لجنة من ستة أشخاص، وهم بقية العشرة المبشرين بالجنة الأحياء والذين توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، واستثنى منهم قريبه سعيد بن زيد، لكيلا يكون لقرابته من عمر حظوة له. وتنازل الستة لعثمان وعلي على أن يكون الحكم بينهما عبد الرحمن بن عوف، وبعد مشاورات لعدة أيام، استشار خلالها عبد الرحمن سادة الناس وقادة الجند، والنساء، اجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن، ثم قال: أما بعد، يا علي، إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا، ثم بايع لعثمان قائلا: أبايعك على سنة الله ورسوله، والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون) رواه البخاري.
وبعد استشهاد عثمان على يد الخوارج، خلت المدينة من أمير، وكان يصلي بالناس أمير الخوارج الغافقي بن حرب، خشي الناس أن تضيع خلافة النبوة، فجاؤوا علي بن أبي طالب، وهو خير من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (لا بد للناس من خليفة، ولا نعلم أحدا أحق بها منك، فقال لهم علي: لا تريدوني، فإني لكم وزير خير مني لكم أمير. فقالوا: لا والله ما نعلم أحدا أحق بها منك. فقال فإذا أبيتم عليّ، فإن بيعتي لا تكون سرا، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني. فخرج إلى المسجد وبايعه الناس) رواه أحمد باسناد حسن. وقد بايعه جميع من كان في المدينة من المهاجرين والأنصار.
وإذا تتبعنا ما سبق من طرق تولي الخلفاء الأربعة، فإنها وإن اختلفت في بعض التفاصيل فإنها تتفق على ما يلي: