دولة الخلافة الراشدة (3)
كانت الردة أول تحد خطير يواجه دولة الخلافة الراشدة، وإن كانت بوادرها قد بدأت قبل ذلك، فقد ارتد الأسود العنسي في اليمن وقضي على فتنته في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ادعى مسليمة النبوة وأرسل رسوله للنبي صلى الله عليه وسلم يسأله اقتسام الأرض. وبعد وفاة النبي كثر المتنبؤون، ومعظمهم من الكهنة والسحرة، الذين اعجبوا بمقام النبوة وتطلعوا إليه، في حين امتنع آخرون عن دفع الزكاة وبخلوا بها، وانتشرت الردة في شمال الجزيرة وجنوبها، في حين صمدت مكة والمدينة والطائف، وانقسمت معظم القبائل، فمنهم من صمد على الاسلام ومنهم من انضم للمرتدين. ولعل السبب الرئيس في حركة الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، هو قرب عهد هؤلاء بالاسلام وعدم تمكنه في قلوبهم، وتفلت بعضهم من أداء الزكاة، وقد كان دأب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل رسله ودعاته الى القبائل يدعوهم ويعلمهم الإسلام ويربيهم عليه، وقد بايع معظم هؤلاء عام 9 هــ، ولم يتشربوا الاسلام كحال من سبقهم من سكان الحجاز، وكذلك لطبيعة بعض الأعراب وتمردهم الدائم، وللنعرات القبلية التي ما زالت تسيطر على بعضهم، حتى قال قائلهم: كاذب ربيعة خير من صادق مضر.
وقد اختلف الصحابة في جواز قتال المرتدين الممتنعين عن أداء الزكاة، فعن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا – شاة – كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه، فعرفت أنه الحق. رواه البخاري، وقد أجمع الصحابة بعد ذلك على قتال المرتدين لعلمهم أن أول التساهل في دفع الزكاة، ثم يستمر مسلسل التنازل حتى لا يبقى شيء من شعائر الإسلام.
وعلى الرغم من خطورة الموقف، وقرب بعض المرتدين من المدينة، فقد أرسل أبو بكر جيش أسامة لقتال الروم، امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، وقبل عودة الجيش من الشام، خرج أبو بكر بمن معه وطهر محيط المدينة من المرتدين. أما بعد عودة الجيش فقد عقد أبو بكر أحد عشرة لواء من أهل الحجاز، ومن الثابتين على الإسلام في بقية القبائل، وكانت خطته أن يهاجم المرتدين في بلادهم ويمنع قدر الإمكان تحالفهم ضده.
عزلت اليمامة عن بقية المرتدين لكثرة عددها ومنعتها، فقاتل خالد بن الوليد مدعي النبوة طليحة الأسدي من بني أسد وحلفاؤها فهزمهم، وفر طليحة إلى الشام، ثم عاد وأسلم وحسن أسلامه، ثم توجه خالد إلى بني تميم فهزمهم وقتل زعيمهم مالك بن نويرة لامتناعه عن الزكاة، ثم توجه لليمامة مع لواء شرحبيل بن حسنة فدارت معركة طاحنة استشهد فيها عدد كبير من أصحاب النبي وحفاظ القرآن، ثم كانت الغلبة للمسلمين، فقتلوا مسلمة وكبار معاونيه.
وقاتل لواء العلاء بن الحضرمي في البحرين وسارت خيل المسلمين على الماء وفاجأت المرتدين، فهزموهم وقتلوا زعيمهم الحطم بن ضبيعة.
وتوجه لواء عكرمة بن أبي جهل إلى عمان وتعاون مع الثابتين على الإسلام من أهلها فهزم المرتدين.
انضم لواء عكرمة بعد ذلك الى لواء المهاجر بن أبي أمية فهزموا المرتدين في حضرموت، وأسروا زعيمهم الأشعث بن قيس الذي تاب ورجع إلى الإسلام. ثم توجه اللواءان الى صنعاء فانضم لهم الثابتون على اللإسلام، وهزموا المرتدين وأسروا زعيمهم عمرو بن معد يكرب، وأرسلوه لأبي بكر حيث تاب على يديه وأسلم.
انتهت حروب الردة، وعاقب أبو بكر من اعتدى على المسلمين بمثل ما اعتدوا به، وألزمهم بعدم حمل السلاح، حتى يطمأن لهم، وقد شارك معظمهم في الفتوح في عهد عمر. ونظرا لاستشهاد عدد كبير من حفاظ القرآن أجمع الصحابة على جمع المصحف في كتاب من الجلد، كتبه زيد بن ثابت، وكان في عهدة أمير المؤمنين. وتوحدت الجزيرة العربية ودانت بالولاء لدولة الخلافة الراشدة.