شبهةٌ وجوابها “في مسألة حقّ المطلَّقة في حضانة الأولاد في الشريعة الإسلامية”
مقدمة:
تُثَار اليوم شبهات عديدةٌ حول المرجعية الشرعية للمجتمعات الإسلامية، وهذه الشبهات كثيرةٌ كثرَةَ سبل الخطأ، ومتشعبة تشعُّبَ أودية الانحراف، وهي تتوزع على أبواب الشريعة كلها من عقائد وعبادات وأخلاق وجنايات ومعاملات. ومن بين تلك الشبهات: شبهات تثار حول أحكام الأحوال الشخصية، مما يتطلب من أهل العلم السعي في رد تلك الشبهات ودحضها، وبيان الحق فيها، ومن بين تلك الشبهات: الشبهة التي بين أيدينا حول إسقاط حضانة المرأة المطلَّقة إذا تزوجت.
نص الشبهة:
ليس في القرآن الكريم ما يدلُّ على إسقاط حضانة المرأة المُطَلَّقَة إذا تزوَّجَت، بل إن هذا الحكم من اختراع الفقهاء؛ لأن الله تعالى عادلٌ ورحيمٌ، ولا يُمكِن أن يَحرِم المرأة من أطفالها.
الجواب:
أن هذه الشبهة تستبطن دعوى تحيُّز فقهاء المسلمين ضدَّ المرأة، والجواب عنها يتطلب منا النظرَ أولًا في أقوال فقهاء المسلمين في هذه المسألة، ثم بيان مستند الجمهور منهم من المنقول والمعقول في إسقاط حضانة المرأة إذا تزوجت.
ومن نافلة القول أن نذكر ابتداء أن ضمَّ الطفل لحضانة الأب أو الأم لا يعني بحالٍ في الشريعة منعَ الطرف الآخر منه؛ لما في ذلك من قطيعة الأرحام([1])، كما أنه «لا يحرم على المرأة المزوجة حضانة ابنها إذا اتفقت هي والزوج وأقارب الطفل على ذلك، ولا ريب أنه لا يجب، بل لا يجوز أن يفرق بين الأم وولدها إذا تزوجت من غير أن يخاصمها من له الحضانة»([2]).
أولًا: عرض أقوال علماء المسلمين في مسألة سقوط حضانة المرأة إذا تزوجت:
اختلف العلماء في سُقُوط الحضانة بالنكاح على أقوال:
القول الأول: سقوط حضانة المرأة إذا تزوَّجَت، سواء كان المحضون ذكرًا أم أنثى.
وهذا قول أبي حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد -في المشهور عنه، ونصَّ عليه في رواية حنبل([3])-، وقضى به شُرَيح والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وحُكِي عليه الإجماع([4]). قال ابن جرير الطبري: «ولم يخالِف في ذلك من يجُوز الاعتراضُ به على الحجَّة فيما نعلَمُه»([5]).
القول الثاني: أنَّها لا تسقط بالتَّزويج بحالٍ، ولا فرق في الحضانة بين المرأة المُزوَّجَة وغير المُزَوَّجَة ، وحكي هذا المذهب عن الحسن البصريِّ، وقضى به يحيى بن حمزة، وهو قول أبي محمَّد ابن حزمٍ([6]).
وقد ذكر ابن جرير الطبري أن مخالفة الحسن البصري وقضاء يحيى بن حمزة لا يقدحان في النقل المستفيض الذي تلزمُ به الحجة، قال ابن القيم: «يريدُ به الإجماع الذي لا ينقضه عنده مخالفة الواحد والاثنين، وهذا أصلٌ تفرَّد به، ونازعه فيه النَّاس»([7]).
فيقال هنا: لا يخلو إما أن تكون المسألةُ إجماعِيَّةً أو غيرَ إجماعِيَّةٍ. فإن كانت المسألةُ إجماعية فالأمر فيها واضح، ولا وجه إطلاقًا لذمّ الفقهاء المتَّفقين، بل الذّامّ لهم الطاعن فيهم أولى بالذمّ. وإن كانت المسألَةُ خلافية فلا وجه لذمّ جنس الفقهاء ونسبتهم إلى مخالفة القرآن ومقتضى العدل والحكمة الإلهية، فإن فيهم من لا يقول بهذا القول المستوجب للذم عند أصحاب هذه الشبهة.
فإن قالوا: إننا لا نذم جنس الفقهاء، وإنما نَذُمُّ من قال منهم بسقوط الحضانة.
قيل: إن ما قالوه دل عليه العقل والنقل، وذامُّهُم هو المستحقّ للذم، كما سنوضحه في الوجهين اللاحقين.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في المسألة قولين آخرين([8]):
القول الثالث: أنَّ الطِّفل إن كان بنتًا لم تسقط الحضانة بنكاح أمِّها، وإن كان ذكرًا سقطت. وهذا القول إحدى الرِّوايتين عن أحمد، قال القاضي أبو يعلى: «نص عليه في رواية مهنا -وقد سئل: إذا تزوجتِ الأم وابنها صغير-: أخذ منها صغيرًا كان أو كبيرًا، قيل له: فالجارية مثل الصبي؟ قال: لا، الجارية إذا تزوجت أمُّها تكون معها إلى سبع سنين. وقال بعضهم: تكون معها إلى أن تحيض»([9]). وقال ابن عبد القوي في ذكر هذه الرواية:
وعنهُ: له حضنُ ابنةٍ دون سبعةٍ سنينَ ولو من أجنبِيٍّ ومبعَدِ([10])
القول الرابع: أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها، قال ابن القيم بعد ذكره: «ثم اختلف أصحاب هذا القول على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّهُ يكفي كونُه نسِيبًا فقط، مَحرَمًا كان أو غير محرم، وهذا ظاهر كلام أصحاب أحمد وإطلاقهم([11]).
الثاني: أنَّهُ يشترط كونه مع ذلك ذا رحم محرم، وهو قول الحنفية([12]).
الثالث: أنَّهُ يُشترط مع ذلك أن يكون بينه وبين الطفل ولادة بأن يكون جدًّا للطفل، وهذا قول بعض أصحاب أحمد([13]) ومالك([14]) والشافعي([15])»([16]).
وهذه كُلُّها عند التأمل إنما هي قيودٌ للقول الأول، والقائلون بها هم أصحاب القول الأول أنفسُهُم، أو بعض أتباعهم.
ثانيًا: مستند قول جمهور علماء المسلمين:
قول جمهور علماء المسلمين في سقوط حضانة المرأة إذا تزوجت مستنِدٌ إلى أدلة شرعية:
الدليل الأول: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن امرأةً قالت: يا رسولَ الله، إن ابني هذا كان بطني لَهُ وعاءً، وثَدْيي لَهُ سِقاءً، وحِجْرِي له حِواءً، وإن أباه طَلَّقَني، وأراد أن ينتَزِعَهُ مني، فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: «أنتِ أحقُّ بِهِ ما لم تَنكِحِي»([17]).
الدليل الثاني: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تَحْتَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُتِلَ عَنْهَا يَوْمَ أُحُدٍ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَخَطَبَهَا عَمُّ وَلَدِهَا، وَرَجُلٌ إِلَى أَبِيهَا، فَأَنْكَحَ الرَّجُلَ، وَتَرَكَ عَمَّ وَلَدِهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: أَنكَحَنِي أَبِي رَجُلًا لَا أُرِيدُهُ، وَتَرَكَ عَمَّ وَلَدِي، فَيُؤْخَذُ مِنِّي وَلَدِي؟ فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَاهَا، فَقَالَ: «أَنْكَحْتَ فُلَانًا فُلَانَةَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «أَنْتَ الَّذِي لَا نِكَاحَ لَكَ، اذْهَبِي فَانْكِحِي عَمَّ وَلَدِكَ»([18]).
فلم يُنكِر النبي صلى الله عليه وسلم أخذَ الولدِ منها لما تزوجت، بل أنكحها عمّ الولد لتبقى لها الحضانة، ففيه دليل على سقوط الحضانة بالنكاح، وبقائها إذا تزوجت بنسيب من الطفل، قاله ابن القيم([19]).
الدليل الثالث: عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: خَاصَمَتِ امْرَأَةُ عُمَرَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما وَكَانَ طَلَّقَهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: «هِيَ أَعْطَفُ، وَأَلْطَفُ، وَأَرْحَمُ، وَأَحْنَى، وَأَرْأَفُ، وَهِيَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا مَا لَمْ تَزَوَّج».
وعَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرَيَّ يُحدَّثُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَضَى عَلَى عُمَرَ فِي ابْنِهِ أَنَّهُ مَعَ أُمِّهِ، وَقَالَ: أُمُّهُ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ([20]).
فهذا قضاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد وافقه عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا مخالف لهما من الصحابة البتة. وهو الحكم الذي قضى به شريح وسائر القضاة بعده في الأعصار والأمصار([21]).
وهؤلاء المثيرون لهذه الشبهة يطعنون بفقهاء المسلمين الآخذين بأقضية النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، فهم أولى بالطعن، وليس قولهم في هذه المسألة من جنس قول ابن حزمٍ، لاختلاف أصولهم عن أصول ابن حزم، فابن حزم مستنده نقلي، وهُوَ مُعظِّمٌ للسنة النبوية، مُحتَجٌّ بها في إثبات الأحكام، وأصحابُ هذه الشبهة أصولُهُم علمانية بدعيَّة؛ فهم لا يقولون بحجية السنة النبوية، ويقولون بجواز التوقف عن العمل بأحكام القرآن، ولمناقشتهم في أصولهم الفاسدة تلك موضعها.
ثالثًا: بيان وجه الحكمة والمصلحة في قول جمهور العلماء بإسقاط حضانة المرأة إذا تزوجت:
1- الحكمة في تقديم الأب على الأم في ولاية المال والنكاح، وتقديمها عليه في ولاية الحضانة والرضاع:
إن باب الحضانة من الأبواب الفقهية الدقيقة التي تتجلى فيها محاسن الشريعة الإسلامية وعدلها، ولذلك قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني رحمه الله: «الحضانة من الأحكام التي يجب صرف الاهتمام إليها، ويقلّ في العلماء من يستقلّ به، فإنه جمع إلى غموض الأطراف انتشار المسائل، والتفاف الكلام عند فرض الازدحام، واضطراب العلماء فيما يُعتَبَر في التقديم والتأخير»([22]).
وقد بين العلماء الحكمة في تقديم الرجل على المرأة في ولاية المال والنكاح، وتقديمها عليه في ولاية الحضانة والرضاع.
قال الإمام عز الدين ابن عبد السلام: «والضابط في الولايات كلها أنا لا نقدم فيها إلا أقوم الناس بجلب مصالحها ودرء مفاسدها، فيقدم الأقوم بأركانها وشرائطها على الأقوم بسننها وآدابها. وكذلك تقدم الأمهات على الآباء في الحضانة لمعرفتهن بها وفرط حنوهن على الأطفال، وإذا استوى النساء في درجات الحضانة فقد يقرع بينهن، وقد يتخير، والقرعة أولى. ويقدم الآباء على الأمهات في النظر في مصالح أموال المجانين والأطفال»([23]).
وقال الإمام ابن القيّم: «والولاية على الطفل نوعان:
نوعٌ يُقدَّمُ فيه الأب على الأم ومن في جهتها، وهي ولاية المال والنكاح.
ونوعٌ تُقدَّمُ فيه الأم على الأب، وهي ولاية الحضانة والرضاع.
وقُدِّم كُلٌّ من الأبوين فيما جُعِل له من ذلك لتَمَامِ مصلحةِ الوَلَد، وتوَقُّفِ مصلحته على من يلي ذلك من أبويه، وتحصل به كفايته.
ولما كان النساءُ أعرفَ بالتربية، وأقدَر عليها، وأصبر وأرأف وأفرغ لها؛ لذلك قدمت الأم فيها على الأب. ولما كان الرجال أقومَ بتحصيل مصلحة الولد والاحتياط له في البُضع، قدم الأب فيها على الأم. فتقديم الأم في الحضانة من محاسن الشريعة والاحتياط للأطفال والنظر لهم، وتقديم الأب في ولاية المال والتزويج كذلك»([24]).
ويظهر لك من هذا أن الولاية على الطفل -سواء كانت ولاية مال أو حضانة- منوطة بالأقدر على تحصيل مصلحة الطفل، وفقًا لمقوماته وطبيعته التي خلقه الله عليها، وليسَت عائدةً إلى تحيزٍ ضد المرأة، أو إلى نظرةٍ دونية تجاهها، كما تقدّم قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «هِيَ أَعْطَفُ، وَأَلْطَفُ، وَأَرْحَمُ، وَأَحْنَى، وَأَرْأَفُ، وَهِيَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا مَا لَمْ تَزَوَّج».
2- الحكمة في إسقاط حضانة المرأة إذا تزوجت بأجنبي:
ذَكَرَ العلماء في بيان وجه المصلحة في انتقال حضانة الأم إذا تزوجت علتين:
الأولى: منع الضرر الذي يلحق الطفل بسبب اشتغال الأم بحقوق الزوج الجديد، فتفرّط في حضانته، وإلا فيتنكَّدُ على زوجها الجديد عيشُه، ويتنغص عليه الاستمتاع المطلوب.
الثانية: منع الضرر الذي يلحق الطفل بسبب غيرةِ زوجِ أُمِّه منه؛ كالبغض والجفاء والمذلة والتقتير في النفقة، حتى قالوا: إن زوج الأم يطعمه نَزْرًا، وينظر إليه شَزْرًا.
وفي ما يأتي بعض نصوص الفقهاء في ذكر هاتين العلتين أو إحداهما:
قال أبو بكر القفال الشاشي الشافعي (ت: 365هـ): «وهكذا إذا نكحت أمُّه، فلا حق لها في إمساكه؛ لاشتغالها بخدمة الزوج، ومما يحتاج إليه أن تصنع نفسها له، حتى تكون مستعدة له، يجدها في أي وقتٍ أحب قضاء حاجته منها. والغالب أن زوج الأم لا يميل إليه مثل أبيه»([25]).
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي (ت: 422هـ) في بيان علة سقوط حضانة المرأة بالزواج: «ولأن الصبي يلحقه ضرر [بتكرُّه] الزوج له، وتضجره به، ولأن الأم تدعوها الضرورة إلى التقصير في تعهده طلبًا لمرضاة الزوج، وكان ذلك الأب يضر بالصبي، فلذلك زال حقها من الحضانة»([26]).
وقال القاضي أبو الحسن الماوردي الشافعي (ت: 450هـ) في ذلك: «ولأن النكاح يمنع من مقصود الكفالة لاشتغالها بحقوق الزوج، ولأن الزوج منعها من التشاغل بغيره، ولأن على الولد وعصبته عار في المقام مع زوج أمه»([27]).
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي (ت: 543هـ): «واتفق العلماء على ذلك (أي” الحضانة)؛ لأن الآدمي محتاج في صغره إلى الكفالة، محتاج في كبره إلى النصرة والولاية، والأم على الكفالة أقدر وبها أبصر، فإنها التي تكفل الابن في معاشه وبينها وبين الولد علاقة في هذه الحالة ليست للوالد، وهو إذا كبِر واستقل بنفسه محتاج إلى النصرة، فهو سيأوي إليها إذا وجدها، ولذلك مهما عكفت الأم على الولد كانت به أحق، فإذا دخل بها زوجها الثاني سقط حقها بالنص وبالمعنى، وهو أن الضرر يلحق الولد باشتغالها بزوجها في حالة الكفالة، وانتهائها به في حالة المباضعة، وتعريض ولد الغير منه إلى الذلة فخزِل عنها»([28]).
وقال الشيخ علاء الدين الكاساني الحنفي (ت: 587هـ): «ولأن الصغير يلحقه الجفاء والمذلة من قبل الأب؛ لأنه يُبغِضُه لغَيْرته، وينظر إليه نظر المغشي عليه من الموت، ويقتِّرُ عليه النفقة فيتضرر به»([29]).
وقال الإمام الموفق ابن قدامة المقدسي الحنبلي (ت: 620هـ) في ذلك: «ولأنها إذا تزوجت اشتغلت بحقوق الزوج عن الحضانة، فكان الأب أحظ له، ولأن منافعها تكون مملوكة لغيرها، فأشبهت المملوكة»([30]).
وقال الفقيه نجم الدين ابن الرِّفْعَة الشافعي (ت710هـ): «ولأن النكاح يشغلها بحق الزوج ويمنَعُها من الكفالة، ويتعيَّرُ به، ولا أثر لرضا الزوج؛ كما لا أثر لرضا السيد بحضانة الأمة»([31]).
وأنت إذا اطَّلَعت على هذه النصوص التي ذكرناهَا، وغيرَهَا الكثيرَ مما لم نَذْكُرْه، علمتَ أنَّ الفُقَهاء في إسقاطهم حق الأم في الحضانة إذا تزوجت إنما قصَدُوا أن ينقلوا الحضانة إلى الأقدر على القيام بمصلحة الطفل، بناء على قاعدة الشريعة في الولايات.
ولهذا قال كثير من الفقهاء -كما تقدم-: إن الزوج إذا كان نسيبًا للطفل لم يسقُطْ حَقُّ المرأة في الحضانة؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، والنسيب تحمله الشفقة على رعاية الطفل، فلا يسقط حق المرأة في الحضانة([32]).
كما نصّ الفقهاء على أنه إذا كان يحصل للطفل ضررٌ وهو في حضانة أبيه فإنه لا ينزع من أُمّهِ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «بل كلُّ من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولايةَ له، بل إمّا أن يُرفَع يدُه عن الولاية ويُقام من يفعل الواجب؛ وإمَّا أن يُضمَّ إليه من يقوم معه بالواجب. فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين يَحصُل طاعةُ الله ورسوله في حقّه، ومع حصوله عند الآخر لا يَحصُل له؛ قُدِّم الأوَّلُ قطعًا. وإذا قُدِّر أن الأب تَزوَّج بضَرَّةٍ، وهو يتركُها (يعني الصبية المحضونة) عند ضرَّة أمها، لا تَعمل مصلحتَها بل تُؤذِيها أو تُقَصِّر في مصلحتها، وأمُّها تَعملُ مصلحتَها ولا تُؤذيها، فالحضانة هنا للأم قطعًا»([33]).
وقال بعض فقهاء الحنفية المتأخرين: «وأنتَ علِمتَ أنَّ سُقُوطَ الحَضَانَة بذلك لدفع الضرر عن الصغير، فينبغي للمُفتِي أن يكون ذا بصيرةٍ ليُراعي الأصلحَ للولد، فإنه قد يكون له قريبٌ مبغض له يتمنى موته، ويكون زوج أمه مشفقًا عليه يعز عليه فراقُه، فيريد قريبُه أخذه منها ليؤذيه ويؤذيها، أو ليأكل من نفقته أو نحو ذلك. وقد يكون له زوجة تؤذيه أضعاف ما يؤذيه زوج أمه الأجنبي. وقد يكون له أولاد يخشى على البنت منهم الفتنة لسكناها معهم. فإذا علم المفتي أو القاضي شيئًا من ذلك لا يحل له نزعه من أمه؛ لأن مدار أمر الحضانة على نفع الولد»([34]).
والخلاصة: أن قول جمهور الفقهاء بإسقاط حضانة المرأة إذا تزوجت من أجنبي مستنِد إلى أقضية النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم على مرّ العصور، وليس من اختراعِ الفقهاء، ثم هو قول يُجلِّي محاسنَ الشريعة الإسلامية في مراعاة مصلحة الطفل المحضون، واحتياطها له غاية الاحتياط. «وكل حكم خالف حكم النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينفكّ عن جورٍ وفساد لا تأتي به الشريعة، فلا إشكال في حكمه صلى الله عليه وسلم، والإشكال كل الإشكال فيما خالفه»([35]).
والله تعالى أعلم، والحمد له رب العالمين.
كتبه محمد براء ياسين.
نقلا عن موقع سلف للبحوث والدراسات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: «محاسن الشريعة» للقفال (ص: 585)، «نهاية المطلب» للجويني (15/ 551).
([2]) «زاد المعاد» (2/ 458).
([3]) انظر: «الروايتين والوجهين» لأبي يعلى (2/ 243)، و«زاد المعاد» لابن القيم (5/ 455)، و«الإنصاف» للمرداوي (24/ 473-474).
([4]) انظر: «المحلى» لابن حزم (17/ 240-241)، و«مختصر اختلاف العلماء» للطحاوي (2/ 458)، و«الاستذكار» لابن عبد البر (23/ 73)، و«زاد المعاد» لابن القيم (4/ 454)، وأخرجه عن الزهري بسنده عبد الرزاق (13483).
([5]) «تهذيب الآثار» كما في «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 486).
([6]) «المحلى» (17/ 225).
([7]) «تهذيب الآثار» كما في «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 486).
([8]) «زاد المعاد» (3/ 332، 5/ 407).
([9]) «الروايتين والوجهين» لأبي يعلى (2/ 243)، وانظر: «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 455)، و«الإنصاف» للمرداوي (24/ 473-474).
([10]) «عقد الفرائد وكنز الفوائد» (2/ 214). وهي منظومة دالية بديعة عقد فيها ابن عبد القوي الفقه الحنبلي في خمسة عشر ألف بيتٍ.
([11]) هذا هو معتمد الحنابلة، قال في «الإنصاف» (24/ 472-473): «هذا الصحيح من المذهب مطلقًا ولو رضي الزوج، وعليه جماهير الأصحاب؛ منهم الخرقي وغيره. وجزم به في «الوجيز» وغيره. وقدمه فى «الفروع» وغيره. قال المصنف وغيره: هذا الصحيح. وقال ابن أبي موسى وغيره: العمل عليه. وأطلقه الإمام أحمد رحمه الله».
([12]) «الاختيار في تعليل المختار» للموصلي (3/ 301).
([13]) قال المرداوي في «الإنصاف» (24/ 474): «وقيل: لا حضانة لها إلا إذا كانت مزوجة بجده»، ومُعتَمَد الحنابلة ما تقدّم.
([14]) مُعتَمَد المالكية ما ذكره الشيخُ خليل في «مختصره» في الحالاتِ التي لا تسقط فيها حَضَانَة المرأة المُطلَّقَةُ إذا تزوَّجت: «أو يكون مَحْرَمًا، وإن لا حضانة له: كالخال، أو ولِيًّا كابن العم». انظر: «شرح مختصر خليل» للخرشي (4/ 213-214).
([15]) قال الشيرازي في «التنبيه» (ص: 212): «ولا حق للمرأة إذا نكحت حتى تطلق، إلا أن يكون الزوج جد الطفل»، ومعتمد الشافعية أن ذلك لا يختصُّ بجَدِّ الطفل، بل كل من له مدخل في حضانته كذلك. كما قال أبو زرعة العراقي في «تحرير الفتاوي على التنبيه والمنهاج والحاوي» (2/ 904) وأورد عبارة النووي في «المنهاج» (ص: 465) وهي: «وناكحةُ غيرِ أبي الطفل إلا عمَّه وابنَ عمه وابن أخيه في الأصح».
([16]) «الروايتين والوجهين» لأبي يعلى (2/ 243)، وانظر: «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 455)، و«الإنصاف» للمرداوي (24/ 473-474).
([17]) أخرجه أحمد (6707) وأبو داود (2276) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو صحيح إلى عمرو بن شعيب، وقد احتجَّ الأئمة بهذا الإسناد. ينظر: «زاد المعاد» (5/ 456، 489).
([18]) أخرجه عبد الرزاق (11146). وضعَّفَه ابن حزم في «المحلى» (17/ 225) بأنه مرسل وفيه مجهول، فلا يحتج به، وأجاب ابن القيم في «زاد المعاد» (5/ 456) بأنه مرسل جيد، له شواهد مرفوعة وموقوفة، وبأن جهالة الراوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن لا تَضُرُّ، لأن الراوي عنه وهو أبو الزبير صرح بتعديله.
([19]) «زاد المعاد» (5/ 456).
([20]) أخرج الخبرين عبد الرزاق (13482)، وأعلهما ابن حزم في «المحلى» (17/ 225) بالانقطاع.
([21]) «زاد المعاد» (5/ 455).
([22]) «نهاية المطلب» (15/ 542).
([23]) «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» (1/ 76).
([24]) «زاد المعاد» (5/ 437-438).
([25]) «محاسن الشريعة» (رسالة جامعية في تحقيق الجزء الثاني من الكتاب من جامعة أم القرى) (ص: 484).
([26]) «المعونة على مذهب عالم المدينة» (1/ 641).
([27]) «الحاوي الكبير» (1/ 510).
([28]) «القبس في شرح موطأ مالك بن أنس» (ص: 954-955).
([29]) «بدائع الصنائع» (4/ 42).
([30]) «المغني» (11/ 421).
([31]) «كفاية النبيه» (15/ 296).
([32]) انظر في هذا التعليل مثلًا: «الاختيار لتعليل المختار» (3/ 300-301)، «تحفة المحتاج» (3/ 525).
([33]) «جامع المسائل» (3/ 421).
([34]) «حاشية ابن عابدين» (3/ 565).
([35]) «زاد المعاد» (5/ 489-490).