إطلاق صفة الشهادة
هل يُقال للمسلم حين يُقتل في أرض المعركة أنَّه شهيد؟!
قد يستغرب مستغربٌ من هذا السؤال، ويقول؛ أليس المسلم الذي قُتل على أيدي الكفار أو الظالمين يُعدُّ شهيداً؟!
والجواب من شقّين:
فإن كان يُقصد أنّ كل مُسلمٍ قتل على يد كافرٍ فإنَّه شهيدٌ؛ فهذا صحيح بالاعتبار الشامل والعام.
وأمَّا إن كان يقصد تعيين فلانٌ المسلم حين يُقتل أنّه شهيدٌ؛ فإنّ تعيينه بأنّه شهيد فيه خلافٌ قويٌ بين أهل العلم.
فمنهم من أجازَ ذلك من باب التفاؤل وحسن الظن بالله حيث إنّه قُتل على يد الكفار أو الظالمين فلهذا يُعدُّ شهيداً.
ومنهم من منع من التعيين والإطلاق الخاص بأنّه شهيدٌ، وهو قول طائفة كبيرة من أهل العلم، ويحتجُّون بعدّة أحاديث:
أولا:
ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد حتى مَرُّوا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله: «كلا إني رأيته في النار في بُردَةٍ غَلَّها أو عباءة»، ثم قال رسول الله: «يا ابن الخطاب، اذهب فنادِ في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون»، قال:فخرجت فناديت ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
وجه الدلالة:
أنَّ رسول الله أنكر على بعض الصحابة تعيينهم لفلان بأنّه شهيدٌ؛ وذكرَ لذلك سبباً وهي كبيرة من كبائر الذنوب منعت من وصف الشهادة؛ رُغم أنّه قتيل معركة.
ثانياً:
ما رواه الإمام البخاري في صحيحه أن عثمان بن مظعون حين وجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغُسل وكُفن في أثوابه؛ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وما يدريك أن الله أكرمه؟”.
فقلت: بأبي أنت يا رسول الله! فمن يكرمه الله؟
فقال رسول الله: “أمّا هو فوالله لقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، ووالله ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي”.
فقالت: والله لا أزكي بعده أحداً أبداً.
وجه الدلالة:
أنّ عثمان بن مظعون لعلّه مات مبطوناً موجوعاً، وهو وإن شُهِد له بالخير، فلا يجزم أنّ الله أكرمه لأنّه أمرٌ مُغيّبٌ عنّا.
ثالثاً:
ما رواه الإمام أحمد في مسنده أنَّ عمر بن الخطاب قال: وأخرى تقولونها في مغازيكم: قتل فلان شهيداً مات فلان شهيداً، ولعله أن يكون قد أَوْقَر عَجُز دابَّتِه أو دَفَّ راحلته ذهباً وفِضَّة يبتغي التجارة فلا تقولوا ذاكم، ولكن قولوا كما قال محمد صلى الله عليه وسلم: «مَن قُتِل في سبيل الله فهو في الجنة». وقد حسنه الحافظ ابن حجر.
وجه الدلالة:
استنكار عمر بن الخطّاب وصف بعض قتلى المعارك في المغازي أن يُقال في تعيين أحدهم:فلانٌ شهيد.
ولهذا وجدنا الإمام البخاري يُبَوبُ باباً في صحيحه وهو : ( باب لا يُقال فلانٌ شهيد).
يقالُ هذا في حقّ قتلى المسلمين على أيدي الكفرة أو الظالمين وأنه يوجد خلافٌ قوي في حكم التعيين والتحديد بأنّ فلان شهيد من المسلمين؛ فكيف يُجزم بأنّ النصراني حين يموت بأنّه شهيد؛ أو أنّه في الجنّة؟!
ومن العجيب حقاً إطلاق دعوى عصريّة لم يقل بها أحدٌ من أهل العلم قديماً ولا متأخراً ولا معاصراً إلا في وقتٍ قريب، وهي أنّه تُطلق الشهادة على قتلى غير المسلمين ويُراد بها الشهادة اللغوية، أو أنّ المقتول كان شاهداً على جرائم المحتل، أوّ أنّه شهيدٌ فيما يعتقده في أمور دينه، وهذا تلبيسٌ في أمر الدين؛ وتضييع للمعنى الحقيقي الذي أراده الله من الشهادة وهي أن تكون في سبيله.
وقد سأل رسول الله صحابته سؤالا صريحا: ما تعدون الشهيد فيكم؟!
وأجابوا على ذلك بما هو معروف عندهم بأنه من قُتل في سبيل الله ثم بيّن من هم الشهداء من أمّة الإسلام، واعتبرها خاصّة بأمّته فقط.
دليله ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ قَالَ إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ قَالُوا فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ “.
ثمَّ إنّ وصف الشهادة مصطلحٌ شرعي له الأحكام والدلالات المتعلقة بها في الدنيا والآخرة ومنها: عدم تغسيله، وعدم تكفين، وعدم الصلاة عليه، وفي الآخرة مغفرة الذنوب، وشفاعته في أهل بيته، وغيرها؛ لذلك لا يجوز إطلاقه على غير المسلمين ممن قُتلوا ظلماً وعدواناً، وفي إطلاقه على المسلمين تحديداً خلافٌ مبنيٌ على أدلّته التي سبقت؛ فليُعلم ذلك، وبالله التوفيق.
خباب الحمد.