كتب السياسة الشرعية
الإسلام السياسي والسياسة الشرعية
مقاربة مع الذاكرة التاريخية
لعل من أوائل من استخدم مصطلح الإسلام السياسي الفرنسي أوليفيه روا في كتابه “فشل الإسلام السياسي” عام 1992م وعرفه بأنه (فصائل الملتزمين الناشطين الذين يرون في الإسلام أيدولوجية سياسية بقدر ما يرون فيه ديناً، بحيث أنهم يؤدلجون أنفسهم ويدخلون في قطيعة واضحة مع بعض السنن والتقاليد !! إنها تلك الحركات التي حملت منذ بضعة عقود من السنين، ولا سيما خلال العقد الأخير، لواء الاحتجاج ضد الغرب واضطلعت بمناهضة الأنظمة القائمة في الشرق الأوسط).
ويرجع ” روا ” بداية هذه الحركات إلى ثلاثينيات القرن العشرين حيث (بادر حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين في مصر، وأبو الأعلى المودودي، مؤسس حزب “جماعت اسلامي” الهندي الباكستاني إلى ايجاد حركة فكرية جديدة في تعريف الإسلام كنظام سياسي في الدرجة الأولى، وذلك على ضوء أبرز أيدولوجيات القرن العشرين. إلا أنهما سيضيفان طابع الشرعية على هذا التجديد بخطاب حول “العودة” : العودة إلى النصوص وإلى الإلهام الأصلي، إلهام الجماعة المؤمنة الأولى).
وهنا تعمد ” روا ” عن قصد التغافل عن أكثر من 1300 عام حكم فيها الإسلام معظم الأرض المعمورة بنظامه الخاص المنبثق عن الكتاب والسنة، وإن تراجع التطبيق في بعض المراحل وضعف في أواخر الدولة العثمانية. ومسكوناً بالخوف من أثر هذه الحركات المحتمل على الغرب ومصالحه في الشرق، سعى جاهداً لإقناع العالم بفشلها وعدم قدرتها على الصمود أمام إغواء السلطة.
لا يعنينا في هذا البحث أوليفيه روا، ولا ما توصل إليه في كتابه، فهو مليء بالأخطاء والتناقضات، وأثبتت الأحداث المتتالية منذ 1992م خطأ تنبآته. ولكن المشكلة فيمن تبنى هذه التسمية من المسلمين، وانطلق يقسم الناس بناء عليها، أو بات مسكونا بالرعب منها بالذات بعد الربيع العربي، إذ طرحت نفسها كبديل وحيد لكثير من الأنظمة القائمة.
ويعنينا هنا اثبات أن الدعوة لإقامة دولة بمرجعية اسلامية والعمل على ذلك ليس وليد أفكار حسن البنا والمودودي، وليس اختلاسا من النظريات الحديثة مع إلباسها لبوسا شرعيا، بل هذا ما توارثه علماء الشريعة كابرا عن كابر منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يعترض البعض بأن التنظير للسياسة الشرعية كان متأخرا، وإنما وضعه البعض ارضاء لحكام عصرهم، فنقول وبالله التوفيق:
يقول محمد شاكر الشريف في بحثه «قراءة في كتب السياسة الشرعية بين القديم والحديث»: (من المعروف أن وجود العلم يسبق تدوينه بمدة، تطول أو تقصر، فتدوين العلم لاحق على وجوده، وذلك أمر موجود في كل العلوم الدينية والدنيوية… ويمكننا أن نقول إن الكتابة في السياسة الشرعية مرت بثلاثة أطوار:
• (الطور الأول) كانت بدايات كلام العلماء في ذلك الباب مرتبطة بالرواية التي كانت تعتمد في أول الأمر في أغلب أحيانها على النقل الشفوي.
• (الطور الثاني) انتقل كلام العلماء للتدوين لكنه كان ممتزجا بما كتب من تفسير القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف… ومما يمثل كتب هذا الطور كتب الحديث والفقه وكذلك العقائد فقد ضمنت هذه الكتب فصولا عن الإمارة والشورى والجهاد وأحكام البغاة والحدود والجزية…
• (الطور الثالث) انتقلت الكتابة إلى افراد مسائل السياسة الشرعية أو بعضها بالتصنيف… وفي دراسة د. نصر محمد عارف توصل إلى وجود أكثر من 300 مؤلف في مسائل السياسة الشرعية، والتي طبع منها أكثر من 100 مؤلف علما بأن هذا لا يمثل جميع ما كتب .
مع ضرورة ملاحظة أن تاريخ تصنيف هذه الكتب والذي بدأ من 200 هـ وما قبل لتتوصل إلى أن ما كتب في السياسة الشرعية وأنظمة الحكم السياسي والإداري والاقتصادي متقدم جداً على ما يدعيه الباحثين الغربيين في اختراعهم ما يسمى بالإسلام السياسي) انتهى ملخصا.
ونعرض الآن لبعض ما كتبه علماء المسلمين في السياسة والحكم، وبناء الأنظمة الحاكمة بمرجعية الكتاب والسنة.
أولاً :
الإمام الماوردي الشافعي (364 – 450هـ) صاحب كتاب «الأحكام السلطانية» والذي وضع كتابه كما يقول في مقدمته : (ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتابا امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته؛ ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه، وما عليه منها فيوفيه؛ توخيا للعدل في تنفيذه وقضائه، وتحريا للنصفة في أخذه وعطائه، فإن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيما خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة؛ ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلا عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة حتى استثبتت بها الأمور العامة، وصدرت عنها الولايات الخاصة، فلزم تقديم حكمها على كل حكم سلطاني، ووجب ذكر ما اختص بنظرها على كل نظر ديني؛ لترتيب أحكام الولايات على نسق متناسب الأقسام، متشاكل الأحكام») (ص13) .
ثم يبين وجوب عقد الإمامة، فيقول: (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع) (ص15).
وبعد أن وضع شروطا للإمام، وطرق توليته، تكلم عن واجباته ومسؤولياته،
فقال: (أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة.
و حماية البيضة والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين.
و إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
وتحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرما، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما.
و جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة؛ ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله.
و أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش) (ص40).
ثم بين واجب الأمة تجاهه فقال: (وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله) (ص42).
ثانياً :
يقول ابن حزم ( 384 – 456 هـ ) في كتابه ” الفصل بين الملل والنحل ” : ( اتفق جميع أهل السنة على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيها أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة ) ج4،ص 87
ثالثاً :
أبو يعلى الفراء الحنبلي (380 – 458 هـ) صاحب كتاب «الأحكام السلطانية » يقول في الإمامة: (نصبة الإمام واجبة وقد قال أحمد رضي الله عنه – في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي -: الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس ) (ص19).
رابعاً :
الإمام الجويني (419 – 478 هـ ) صاحب كتاب «غياث الأمم في التياث الظلم» يقول: (الإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا. مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الخيف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين) (ص22)، ويقول : (أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا البدار إلى نصب الإمام حقا؛ فتركوا لسبب التشاغل به تجهيز رسول الله ودفنه، مخافة أن تتغشاهم هاجمة محنة. ولا يرتاب من معه مسكة من عقل أن الذب عن الحوزة، والنضال دون حفظ البيضة محتوم شرعا، ولو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم وازع، ولا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع، مع تفنن الآراء) (ص23).
خامساً :
ابن تيمية (661 – 728هـ) صاحب كتاب «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» يقول: (ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا تمام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض تعاونًا وتناصرًا؛ يتعاونون على جلب المنفعة، ويتناصرون لدفع المضرة، إذ الواحد منهم لا يقدر وحده على جلب جميع منافعه، ودفع جميع مضارِّه. ولابد لهم عند الاجتماع من رأس . ولأن الله تعالى أوجب الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، ولا يتمُّ ذلك إلا بقوَّة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجُمَع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة .
سادساً :
بدر الدين بن جماعة (639 – 733 هـ) في كتابه «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام»
(وَيجب نصب إِمَام بحراسة الدّين، وسياسة أُمُور الْمُسلمين، وكف أَيدي الْمُعْتَدِينَ، وإنصاف المظلومين من الظَّالِمين، وَيَأْخُذ الْحُقُوق من مواقعها، ويضعها جمعا وصرفاً فِي موَاضعهَا، فَإِن بذلك صَلَاح الْبِلَاد وَأمن الْعباد، وَقطع مواد الْفساد، لِأَن الْخلق لَا تصلح أَحْوَالهم إِلَّا بسُلْطَان يقوم بسياستهم، ويتجرد لحراستهم (ص48 – 49).
سابعاً :
محمد رشيد رضا (1282 هـ – 1365 هـ) في كتابه «الخلافة » يقول:
«أجمع سلف الْأمة، وَأهل السّنة، وَجُمْهُور الطوائف الْأُخْرَى على أَن نصب الإِمَام – أَي تَوليته على الْأمة – وَاجِب على الْمُسلمين شرعا لَا عقلا فَقَط كَمَا قَالَ بعض الْمُعْتَزلَة، وَاسْتَدَلُّوا بِأُمُور لخصها السعد فِي متن الْمَقَاصِد بقوله: لنا وُجُوه: (الأول) الْإِجْمَاع وَبَين فِي الشَّرْح أَن المُرَاد إِجْمَاع الصَّحَابَة قَالَ: وَهُوَ الْعُمْدَة، حَتَّى قدموه على دفن النَّبِي صلى الله عليه وسلم (الثَّانِي) أَنه لَا يتم إِلَّا بِهِ مَا وَجب من إِقَامَة الْحُدُود وسد الثغور وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يتَعَلَّق بِحِفْظ النظام (الثَّالِث) أَن فِيهِ جلب مَنَافِع وَدفع مضار لَا تحصى وَذَلِكَ وَاجِب إِجْمَاعًا (الرَّابِع) وجوب طَاعَته ومعرفته بِالْكتاب وَالسّنة، وَهُوَ يَقْتَضِي وجوب حُصُوله وَذَلِكَ بنصبه . (ص18).