غزة.. وإحياء مفهوم الأمة
في السابع من أكتوبر العام المنصرم أطلقت حركة المقاومة الإسلامية حماس عملية طوفان الأقصى نحو مستوطنات الغلاف مخلفة المئات من الصهاينة ما بين قتيل واسير وجريح. لتبدأ بعد ذلك حربٌ ضروس لا زالت رحاها مستمرةً إلى اللحظة، استخدمت فيها آلة الإجرام الصهيوني شتى أنواع آلات القتل بالجملة والإبادة الجماعية، مدعومةً من قوى الاستكبار العالمي وعلى رأسها القوى الغربية.
ضربت المقاومة وأهل غزة في هذه الحرب أروع صور الثبات، ورسمت صورة ناصعة للبطولات والتضحيات، لكن حديثنا اليوم هو عن خارج غزة، عن المحيط العربي والإسلامي المحيط بغزة. لا يمكننا أن ننكر أن هذه الحرب تختلف عما سبقها من حروب بين العرب وبين إسرائيل، فهذه هي الحرب الأولى التي تقع في ظل ثورة الاتصالات ووسائل التواصل وهي في أوجها، فقد ابتدأت الحرب بسنة العدو الصهيوني وحلفائه المعتادة، باستخدام أدوات الإعلام التقليدية في صناعة رواية مكذوبة موحدة للأحداث في غزة ومحيطها، فمن روايات الأطفال المقطوعة رؤوسهم، إلى أكذوبة الاغتصاب التي روجت لها آلة الإعلام الرسمية الإسرائلية والأمريكية، وصولاً لمجزرة المستشفى المعمداني. لكن المختلف هذه المرة، كان الحضور الملفت لوسائل التواصل الاجتماعي، وتحول الجميع إلى مراسلين ومصورين، لتكون الصورة مختلفةً تماماً عما اعتدنا عليه بخصوص الرأي الدولي للأحداث، ولنرى تفاعلاً واسعاً انطلقت شرارته ليس من غزة وحدها، وإنما من المحيط العربي والإسلامي في تفنيد الرواية المضللة للكيان الإسرائيلي، لتخلق في نهاية المطاف رأياً عالمياً هو الأول من نوعه، في انتقاد السياسات والمذبحة الصهونية، والتعاطف مع الشعب الفلسطيني، بل وحتى المقاومة في كثير من الأحيان.
ما يلفت الانتباه هنا، هو تلك الروح العامة التي تعم وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها منصتي إكس وتيك توك – باعتبارهما المنصتين الأكثر اعتباراً لحرية النشر، وهما تمثلان جيلي الألفية وما بعد الألفية- من التفاعل الإيجابي مع قضية الأمة المركزية، قضية فلسطين، من قبل عموم الشباب العربي والإسلامي. يأتي هذا التفاعل ملفتاً للأنظار بعد مدة طويلة من محاولة تثبيت رؤية الدولة القُطرية الحديثة، والتي تعيش بمعزلٍ عن محيطها، تحاول النظر فقط إلى مصالحها الموهومة، وليذهب العمق العربي والإسلامي إلى الجحيم.
حشدت أنظمة ما بعد الربيع العربي بقدها وقديدها، من ذباب إلكتروني، وصحافةٍ صفراء، وضخٍ لأفكار المواطنة غير المحمودة، مذكية ما أمكنها من أمراض العنصرية والطائفية في المنطقة ضد اللاجئين، والمجنسين، والوافدين …الخ من المسميات التي تلصق بالإخوة الذين لربما يعيشون تحت نفس السقف لسنوات، لكن مقياس الدولة القطرية الحديثة حكم عليهم بأنهم أقل قيمة وأدنى شأناً.
أنفقت الأموال، وشُغّلت القنوات والأبواق، لترسيخ حدود سايكس بيكو، ولمحاولة تنمية شعور الحدودية والمناطقية، فأنا كفلسطيني لا شأن لي بالسوري، وكسوري لا شأن لي بالسوداني، فضلاً عن البورمي أو الأفغاني أو غيره.
“يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون”
تلقت مشاريع التقطير ضربتين موجعتين في العقد الأخير، كانت الأولى بما حدث بعد الربيع العربي وإبانه، فقد تبينت هشاشة هذا الرابط والمكون في وجه التعددية الهوياتية، والمشاريع المختلفة الموجودة في المنطقة، فوجدنا كثيراً من الأقليات تبحث لنفسها عن هويةٍ مختلفة تتمسك بها غير هوية الدولة القطرية، غير عابئة بإخوة القطر! فلجأت كثيرٌ من هذه الأقليات لقوىً خارجية عدوةٍ أو صديقة، باحثةً هناك عن السند والركن الشديد. بل أعلن بعضهم الولاء المطلق لتلك الدول والقوى الخارجية، فباتت بلداننا مقسمةً ممزقة مستباحةً لكل صائل وجائل، يصول فيها “سليماني” وكوشنر وأمثالهما بلا رقيب أو حسيب.
أما الضربة الثانية الموجعة لمشروع الدولة القطرية، فقد كانت في طوفان الأقصى، وما حدث بعده من تفاعل عربيٍ وإسلاميٍ واسعٍ مع القضية الإسلامية الأولى، في ضربةٍ موجعة لكل الجهود والذباب الإلكتروني الذي لطالما حاول أن ينقل لنا صورةً بأن الشعوب لم تعد تعبأ بفلسطين وغير فلسطين، وإنما هم كل شعب نفسه ورفاهه ورؤاه المستقبلية لبذخ عيشه ورفاه دولته، ولتحترق فلسطين وسوريا واليمن والسودان وما بعدها!
كان نبض الامة الواحد، ذلك النبض من أقصى الشرق في ماليزيا واندونيسيا ودول وسط آسيا، إلى أقصى الغرب في الجاليات الإسلامية في الغرب، مروراً بكل الدول العربية، بل وحتى مروراً بتركيا، التي أُريد للمشروع القومي القطري أن يعزلها عن العالم العربي والإسلامي، وبُذلت في ذلك الجهود والأوقات والأموال، وجدتها جميعاً عن قلب رجل واحد، متعاطفةً داعمةً لقضايا الأمة، مستشعرة للألم الواحد، حتى وإن كان يبعد آلاف الاميال.
الشرق الأوسط.. ومعضلة الهوية
كلمة الشرق الاوسط هي من أغرب الكلمات والمصطلحات التي يستعملها الساسة الغرب في التعامل مع منطقتنا، فبعد قرن من الزمن على سايكس بيكو، أيقن الغرب ووليدته في المنطقة، إسرائيل، أنه لا يمكن التعامل مع هذه الدول كلٌ على حدة. بل والغريب في الموضوع أنه لم يصفها حتى بالدول العربية، فهو لا يمكن أن يعزل تركيا بل وحتى إيران عن الصورة هناك، ولا يريد ان يصفها بالإسلامية حتى لا يعيد -لا سمح الله – الهوية الإسلامية إلى الواجهة مرةً أخرى، من هنا كان هذا الاسم الغريب الذي لا طعم له أو لون، الشرق الأوسط، وكأنّ قوى الاستعمار والاستكبار العالمي تتعامل مع قطعة أرض، لا شعباً له هويته وأصله وتاريخه.
كثيرةٌ هي الكتابات الغربية التي تتحدث عن معضلة الهوية في المنطقة، وأن الكيانات التي رسمها الانجليزي والفرنسي ليست قابلةً للحياة، ولا يمكن لها أن توجد نوعاً من الاستقرار. والناظر في حال كثير من “البلدان” العربية والإسلامية، يمكن أن يستشف هذا الأمر واضحاً جلياً، في كمّ الدول التي تعيش على المساعدات الخارجية والمعونات من صندوق النقد الدولي أو الاستجداء من الدول الأخرى.
وهنا يأتي السؤال الأكبر، كيف يمكن صياغة هويةٍ جديدةٍ للمنطقة، في ظل هذه الحدود التي تمنع التواصل، وتخنق الأمة.
هنا يأتي مفهوم الأمة ليمثل حلاً استراتيجياً واقعياً لجزء كبير من هذا الإشكال، فبعيداً عن الدول والدويلات، فإن الشعوب والمجتمعات هي الأهم، وهي المرحلة الأولى في عملية الوحدة وصياغة الهوية الجامعة الجديدة، هذا لا ينفي أهمية الوحدة وصبغ دولنا نهايةً بالهوية المرادة، لكن إن كان هذا الأمر متعسراً الآن، فلا بد على الأقل من إصلاح هذه المسألة على مستوى المجتمعات، وهنا تأتي أهمية إحياء مفهوم الأمة.
وبالطبع، فإننا حين نتحدث عن مفهوم الأمة، فإن هناك كثيراً من “الأمم” التي تخطر ببالنا، فمن أمة أتاتورك التركية إلى أمة عبدالناصر العربية، إلى غيرها من “الأمم” المزعومة، إلا أننا جميعاً في وجداننا، عميقاً هناك في الخلفية، ينتظر البروز للسطح، مفهوم الأمة العزيزة التي كانت لها كلمتها وهيبتها بين الأمم لقرون، أمة المسلمين التي كانت هي السد المنيع الذي يدافع عن حقوقنا، ويصلح حاكمينا، ويصحح مسيرتنا.
الأمة لغة: الجماعة من الناس التي تؤم جهة معينة.
وهي في الاصطلاح جماعة من البشر تتوفر فيها عناصر التاريخ – اللغة – الثقافة – الدين – الجغرافية ، والأمة ترمز إلى النواحي الثقافية و الحضارية للمجموعة الإنسانية.
إذا فهي معاني: الدين، واللغة، والثقافة، والتاريخ والجغرافيا، هي تلك التي تحدد هوية أمة ما، وتلك هي المعاني التي لا بد أن نعمل على تعزيزها. إن ثورة وسائل التواصل الحديثة، قد أزالت الحدود، وجعلت التواصل والتفاعل ما بين الناس أسهل بكثير، فاتحة المجال أمام الشعوب لإحياء مفهوم الأمة، حتى ولو لم تكن دولها موحدة، فإن قلوبها، وهمومها، وأحلامها وآمالها وآلامها واحدة.
إذا هبت رياحك فاغتنمها
إن غزة، بكل معاني الصمود، لم تدرك أنها بطوفانها قد أيقظت الامة، وحركت المياه التي ظنها الجميع راكدة، غزة قد كشفت أعيننا على الواقع الذي ظنناه حلماً، وكشفت عنا الغطاء عن الأحلام التي ظنناها واقعاً. ولكن، تلك الريح لا بد أن تغتنم، ولا بد أن تشرّع الأشرعة والصواري باتجاه المشروع الذي يمنع الإبادة، ويقوي شوكة الأمة.
لا بد أن نلتفت إلى إيجاد مشاريع جديدة، بروح عصرية تتوافق مع الواقع الجديد بعد ثورة الاتصالات، مشاريع اقتصادية، ولغوية وثقافية وسياسية وغيرها، تجمع شمل الأمة، وتوحد شملها، لتكون أمة متوحدة، بانتظار لحظة الربيع القادم.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..