غزة.. ودائرة الممكن
كثيرةٌ هي الأسئلة التي تخطر ببالنا منذ بدأت الحرب في غزة، لكن سؤالاً واحداً لربما يكون الأهم بين تلك الأسئلة، ألا وهو سؤال ماذا نستطيع أن نفعل، وماذا يمكن أن نقدم.
وعلى بساطة هذا السؤال إلا أن الإجابة عليه ليست بتلك السهولة، فإننا حينما نحاول الإجابة عن هذا السؤال سنصطدم بكثير من تعقيدات الواقع ودوائر الممكن والمستطاع. بل أحياناً حتى وإن عرفنا ما هي دائرة المستطاع، وعملنا جهدنا للعمل فيها، فإن هول الحدث، وضآلة تأثير الممكن، تجعلنا نراجع أنفسنا المرة تلو المرة، ويتسلل الشك، بل واليأس أحياناً إلى أنفسنا مما نفعل ونقدم.
لأجل كل ذلك، فإن الإجابة عن هذا السؤال مهمة، ليست لأنها تخبرنا بماذا يمكن أن نقدم الآن، بل لأنها ستخبرنا عمّا يمكن أن نقدم كذلك في المستقبل.
(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)
هذه الآية تمثل القاعدة الأبرز في التعامل مع الواقع الحالي، الواقع الذي هو أبعد ما يكون عن المتوقع والمأمول.
بدايةً، فإن أول ما تقدمه هذه الآية، هي جهة المحاسبة التي لا بد أن نجهز التبرير والحجج لها، فإنّ الذي سيحاسب على الوسع، هو العظيم العليم في عليائه، المطلع على دقائق الأمور وخبايا النفوس. يبعث هذا في القلب المؤمن الخشية والخشوع، واستحضار تحري الصدق حين تحديد دائرة الممكن والمستطاع تبعاً لذلك.
“الوُسع” إذاً هو مدار التكليف، ومناط المحاسبة. لكن السؤال الأبرز هنا، ما هو حجم الوسع؟ ومن الذي يحدد إن كان هذا الأمر في دائرة الوسع أو عدمه.
قبل ذلك، لا بد أن نؤكد ما هو واضحٌ من الآية، فإن مفهوم الآية هو التالي: إن قدمت ما في وسعك، فإنك أبرأت الذمة أمام الله، أما إن كان في وسعك شيئاً ما، فقدمت ما هو دون ذلك، فأنت قد خنت الأمانة، وأنت تدخل في دائرة من خذل المسلمين، أو حتى من خان المسلمين.
من هذا المنطلق، يمكن أن نفهم أن المسؤولية تتفاوت بتفاوت القدرة والطاقة. فالفقير لن يحاسب كما الغني، والوزير لن يحاسب كما الغفير، والقريب لن يحاسب كما البعيد… الخ.
يكون مصداق هذا الكلام حديث النبي صلى الله عليه وسلم: سبق درهمٌ مائةَ ألفٍ، كان لرجلٍ درهمانِ فتصدَّقَ أجودُهما، وانطلق رجلٌ إلى عرضِ مالِه فأخذ منها مائةَ ألفٍ فتصدقَ بها.
إذاً فلربما يضرب أحدهم مائة صاروخ على العدو وهو مقصر، ولربما تدعو عجوز في نصف الليل وقد أدت ما عليها.
حين نضع هذا التصور في أذهاننا، فإننا نؤسس لقاعدةٍ عظيمةٍ ستؤهلنا لنرى الأحداث بصورةٍ أوضح، وللحكم على التصرفات، والأهم من ذلك، بناء تصرفاتنا أنفسنا تبعاً لهذه القاعدة.
سنأخذ هذه القاعدة ونطبقها على ثلاث مجموعات، لنرى ما هو الممكن والمستطاع، وما هو المطلوب والمقدور عليه.
المجموعة الأولى: عموم المسلمين
حين نضع هذا التساؤل، فإننا نحن كعموم المسلمين، الأولى يهذا التساؤل، والأجدر به، فإننا قبل أن نحاسب أحداً، لا بد أن نحاسب أنفسنا. ومن هذا الباب مرةً أخرى فإننا نضع في قاعدة الوُسع قيد التطبيق مرةً أخرى. وهنا يمكن أن نقسم هذه الدائرة إلى ثلاثة أقسام:
١- ما يمكن كل المسلمين القيام به: وهو ما لا يحل لأحد تركه من المسلمين، ويدخل في ذلك الدعاء، والمقاطعة، وصدقة المال بالمستطاع، والتفاعل الإعلامي بالمستطاع، ونشر القضية بين الناس بالمستطاع، والاقتراب من الله واتباع شرعه فيما أمر ونهى. فتلك أمورٌ لا عذر لأحد في تركها أو التقصير فيها.
٢- ما يمكن لكثيرٍ من المسلمين القيام به حسب وضع الدولة والمكان: كالمظاهرات، والاضرابات، والضغط على الحكومات، ولربما في بعض الأماكن يدخل فيها الجهاد بالنفس. وهنا تقاس كل دولةٍ ومنطقةٍ تبعاً لظروفها، فليست الأردن كمصر، ولا الشام كالعراق، ولا الضفة كالمغرب، ولا تركيا كالسودان.
وكذلك تقاس قدرة الأفراد، فإن الفرد القادر على المشاركة بنفسه في المظاهرات، غير كبير السن أو المريض. ولا بد أن نستذكر هنا أن دائرة الوسع أوسع من دائرة السلامة، فقد يترتب على المشاركة بالمظاهرات مثلاً أذى، لكنه مع ذلك في دائرة الوسع في بعض البلاد على خلاف أخرى، فهذا لا يعفي أهل ذلك البلد من مسؤليتهم.
٣- توسيع دائرة المستطاع: وهو من أهم أوجه المسؤولية في هذه الدائرة، وهو في الغالب ما نقصر فيه نحن كشعوب، فإننا لابد أن نسعى في جعل دائرة المستطاع في أوسع ما يمكن نصرةً لإخواننا الذين يبذلون دماءهم وأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، فمدافعة ما يضيّق دائرة الممكن والوسع مهمٌ جداً في سبيل إبراء الذمة، وتقديم حق النصرة. ويدخل في ذلك: تنشئة النفس والجيل على العزة والكرامة والدين، ومدافعة الظالمين والسعي في أن يكون للأمة قرارها المستقل القوي، وغيرها من الأمور التي تدخل في دائرة الإعداد والتكوين.
المجموعة الثانية:الحكومات العربية والإسلامية
وهنا لا بد أن دائرة الوسع والمستطاع أكير، وبالتالي لا بد أن المسؤولية والمحاسبة ستكون على قدر هذا الوسع. وكما تتفاوت مسؤولية الشعوب تتفاوت مسؤولية الأنظمة والحكومات. وكذلك فإن هذه المسؤولية تقع على ثلاث درجات: ففي الدائرة الأولى – التي هي في وسع الجميع – يأتي تحفيض التمثيل الدبلوماسي والضغط على الكيان في المحافل القانونية والحقوقية والسياسية لوقف العدوان.
وفي الثانية: فإن فتح المعابر الإنسانية، وإدخال المساعدات “بكميات وافية”، وإلغاء معاهدات السلام والتطبيع، والحصار الاقتصادي للعدو، وإرسال البعثات الدبلوماسية عالية المستوى لتكون موجودةً في القطاع لمنع العدوان من القصف واستهداف المدنيين تدخل في دائرة الممكن الذي يمكن على الأقل لدول الجوار أن تقوم به. وهذا كله لا يعفي الحكومات والأنظمة من السعي كذلك في توسيع دائرة الوسع والممكن، لتقوم بما يفترض به أن تقوم فيه – لا سمح الله – من مجابهة العدوان بالعدوان، وملك أدوات الردع لمنع العدوان على الإخوان. من قام بذلك فقد أدى ما عليه، ومن قام بما هو دون ذلك، فإنه قد قصر ولم يؤد أمانته.
المجموعة الثالثة: المشاريع والدول والتكتلات الأخرى في المنطقة
وقد يبدو عدّ هذه التجمعات غريباً، لكن عموم اللفظ القرآني في (نفساً) يدلُّ على أن الكل محاسب. ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا نلوم حزب الله وإيران مثلاً، بالرغم مما يقدمونه في الحرب، لأننا نعلم يقيناً بأن دائرة الوسع لديهم أكبر بكثيرٍ من الذي قاموا به لو أرادوا، لكنهم آثروا سلامة مشاريعهم الطائفية على الدعم الحقيقي والوقوف بجانب المستضعفين في غزة، فإن الذي بذل الغالي والنفيس لحرب مشاريع التحرر في عواصمنا العربية، ولترسيخ الأنظمة العميلة لمشروع إيران التوسعي في المنطقة، ثم هو بعد ذلك يشارك على استحياءٍ في حرب ما يسميه محور الشر، والذي بذل مئات بل آلاف القتلى من عناصره في قتال المستضعفين من أهل سوريا، ثم هو منذ بداية الأحداث يجعجع بغير طحن، ويرعد ويزبد بدون مشاركة حقيقة في الحرب، فإنه لم يبذل ما في وسعه حقيقةً.
هذا وإن كنا لا نتأمل ممن كان عدواً لمشاريع التحرر والاستقلال في أوطاننا أن يكون عوناً حقيقياً لنا، ولا نرتجي منهم عوناً أو ظهيراً، لكننا مع ذلك نريد أن نبّين على الأقل ما هو موقف هذه الأحزاب والتجمعات، ولماذا نشعر بأنهم خانوا شعب فلسطين في هذه الحرب.
أخيراً، فإننا مرةً أخرى لا بد أن نستحضر مراقبة الله لنا في كل ما ندعي ونعمل، وأن نستشعر بأننا لا بد أن نبذل أقصى، بل وكل ما يمكننا فعله حتى نصل مرضاة الله، ونصرة المستضعفين من المسلمين.
أختم أخيراً بقولٍ للمهندس أيمن عبد الرحيم: “أن سقف الممكن أعلى بكثيرٍ جداً من جهد جميع الأفراد مجتمعين”.