الإبادة الجماعية
تردد الكثير من الساسة الغربيين في اطلاق وصف الإبادة الجماعية على ما يحدث في غزة على يد الجيش الاسرائيلي، وخرج الرئيس الأمريكي بايدن عدة مرات ليعلن أن ما يحدث هناك لا يرقى للإبادة الجماعية. في حين سمعنا مرارا عن اتهامات لتركيا بإبادة الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى، وسمعنا عن الإبادة في البوسنة والهرسك والإبادة في راوندا. فحق لنا أن نتساءل عن المعنى القانوني للإبادة الجماعية، ومتى استخدم هذا المصطلح لأول مرة، وما هي الإبادات المعترف بها دوليا وما هي المختلف عليها، ولماذا؟ وأهم ما في الموضوع: هل من مصلحة أهل غزة خصوصا والمسلمين عموما إثارة هذا المصطلح وتوظيفه في هذه المرحلة ضد اسرائيل؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الأسطر القادمة.
لم يكن مفهوم الإبادة الجماعية مستعملا قبل الحرب العالمية الثانية. وأول من استخدمه المحامي اليهودي رافائيل ليمكين، الذي ولد في بولندا عام 1900م، وانتقل بعد ذلك للعيش في الولايات المتحدة بعد احتلال بلاده من الجيوش الألمانية، وانضم كمحلل للمخابرات الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1944م خرج بمصطلح الإبادة الجماعية. ومسكونا بتجربته الشخصية، ومحاولة توصيف ما حل بقومه من اليهود إبان الحرب، قام بتشكيل مصطلح الإبادة الجماعية (genocide) عن طريق الجمع بين كلمة (geno) اليونانية والتي تعني سلالة أو عرق أو قبيلة، مع كلمة (cide) اللاتينية والتي تعني القتل. والكلمة تعني وضع خطة منظمة تتألف من إجراءات مختلفة تهدف إلى تدمير الأساسيات الضرورية لحياة مجموعات قومية، بالإضافة إلى إبادة المجموعات نفسها. فالإبادة الجماعية هي موجهة ضد الدولة والشعب، وعمليات تلك الإبادة هي موجهة ضد أفراد الذين هم أعضاء تلك الدولة. شارك ليمكين في الإعداد لمحاكمات نورنبرغ (1945-1946) للقادة الألمان، حيث استطاع أن يضيف كلمة “الإبادة الجماعية” إلى عريضة الدعوى الموجهة إلى قادة النازيين. وإن لم تكن في ذلك الحين مصنفة من ضمن الجرائم.
في 8 ديسمبر 1948 تبنت الأمم المتحدة، المنشأة حديثا، النص النهائي لتجريم الإبادة الجماعية بالإجماع. وقد أصبحت اتفاقية الأمم المتحدة بشأن منع ومعاقبة الإبادة الجماعية سارية المفعول في 12 يناير 1951، بعد تصديق أكثر من 20 بلدًا حول العالم عليها. وقد نص القانون على أن الإبادة الجماعية تعني ارتكاب أي عمل من الأعمال الآتية بقصد الإبادة الكلية أو الجزئية، لجماعة ما على أساس القومية أو العرق أو الجنس أو الدين، مثل:
(أ) قتل أعضاء الجماعة.
(ب) إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأعضاء الجماعة.
(ج) إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة بشكل متعمد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كليًا أو جزئيًا.
(د) فرض إجراءات تهدف إلى منع المواليد داخل الجماعة.
(هـ) نقل الأطفال بالإكراه من جماعة إلى أخرى.
وقد تأخر انضمام الولايات المتحدة لمعاهدة تجريم الإبادة الجماعية لعام 1988م إبان حكم الرئيس رونالد ريغان! خوفا من اتهامها بهذه الجريمة وخصوصا في حرب فيتنام وكمبوديا. وقد تشكلت محكمة خاصة تتبع للجنائية الدولية للنظر في تهم الإبادة الجماعية في البوسنة والهرسك عام 1993م، ومحكمة أخرى خاصة بجرائم الإبادة في راوندا عام 1994م، وصدر أول حكم بالإدانة لهذا النوع من الجرائم عام 1998م. وفي عام 2004م تم اتهام ميليشيا الجنجويد بارتكاب إبادة جماعية في دارفور، وفي عام 2016 أعلن وزيرة الخارجية الأميركية جون كيري أن داعش ارتكبت جرائم الإبادة الجماعية ضد اليزيديين والمسيحيين والشيعة في المناطق الخاضعة لسيطرتها في جميع أنحاء سوريا والعراق.
لقد وظفت تهمة الإبادة الجماعية توظيفا سياسيا، منذ بداية تعريفها. فقد استغلت لاظهار اليهود كضحايا حرب، وجذب التعاطف معهم، ومع مشروعهم الاستيطاني في فلسطين، وكان هذا المقصد الأساس من نحت هذا المصطلح. كما أنه يوظف سياسيا لمصالح الدول الكبرى، فقد تحدث الكثيرون عن اتهام الدولة العثمانية بإبادة الأرمن، للضغط على تركيا الحديثة، ولكن لم يتحدث منهم أحد عن الإبادة التي تعرض لها المسلمون في أوروبا الشرقية، بعد هزيمة العثمانيين في حرب البلقان، وقتل الملايين من المدنيين المسلمين، واجبار الباقين على الهجرة إلى تركيا. ولم يتحدث أحد عن الإبادة الجماعية التي تعرض لها المسلمون في الهند بعد اعلان الاستقلال عن بريطانيا، واجبار الملايين منهم على الهجرة إلى باكستان، ولا يتحدث أحد اليوم عن السياسات التي يتبعها الحزب الحاكم اليوم بقيادة مودي باضطهاد المسلمين بسبب دينهم في الهند. وإذا كان وزير الخارجية الأمريكي كيري قد تحدث عن إبادة اليزيديين على يد داعش، فهو لم يتحدث عن الإبادة الكبرى التي شارك بها جيشه بالتعاون مع المليشيات الشيعة لقتل السنة واخراجهم من أرضهم وتغيير التركيبة السكانية في العراق. أما فلسطين فهي منكوبة منذ وعد بلفور، ويتعاون المجتمع الدولي مع الجلاد، لإفراغ فلسطين من أهلها وتهجيرهم إلى دول الجوار.
والسؤال الآن، هل ما يحدث في غزة إبادة جماعية؟ فلننظر للنقاط الخمس التي توصف الإبادة الجماعية، والتي اعتمدتها الأمم المتحدة، وطرز بها اليهود موقعهم الالكتروني عن الهولوكوست:
- قتل عشرات الآلاف من أهل غزة، ولا يوجد عدد دقيق لعدد الضحايا حتى الآن، لكثرة من دفنوا تحت الركام، ولم يعثر عليهم بعد.
- تضرر أهل غزة وهجروا أكثر من مرة، والذين وقعوا بالأسر قتل بعضهم، والذي أفرج عنه تحدث عن أبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي الذي يتعرض له المعتقلون.
- تضررت معيشة أهل غزة، فتوقفت أعمالهم، وهدمت منازلهم، وفرض عليهم الحصار، ومنعت عنهم المساعدات، وقطعت عنهم الكهرباء والماء، ويمطرون ليل نهار بوابل من القنابل الذكية والغبية، هدمت معظم المساجد، والمدارس والمستشفيات، وجرفت الطرق، ويعيش معظمهم الآن في خيام على شاطىء البحر.
- قتل آلاف الأطفال خلال القصف والنزوح، ومات الكثير منهم بسبب سوء التغذية، ومنعت اللقاحات من الدخول لغزة، وانتشرت بين الأطفال أمراض الجرب، وشلل الأطفال. بل قتل بعضهم عمدا خوفا من تحولهم في المستقبل لمقاومين مفترضين. أجبر المرضى على مغادرة المستشفيات، ومات الكثير من الأطفال الخدج بسبب انقطاع الكهرباء.
- يعيش الآلاف من الأطفال اليوم في غزة خارج أسرهم، بعد أن قتل معظم أفراد عائلاتهم، ويجبرون على النزوح من مكان لآخر، بل الخروج من غزة إلى أي مكان آخر في العالم.
إذا لم تكن هذه إبادة جماعية لأهل غزة، فما هي إذا؟ وقد اعتمد مجلس الحرب الاسرائيلي سياسة إلحاق أكبر قدر من الأذى والدمار في غزة من أول يوم من أيام الحرب.
قد يقول قائل: دعك من هذا الجدال. لقد صدرت عشرات القرارات الدولية ضد اسرائيل، ولم تعمل بأي منها، وهناك دوما الولايات المتحدة والدول الغربية، التي تساعدها في الإفلات من العقاب. لن ينفع مع هؤلاء إلا القوة التي تجبرهم على وقف عدوانهم.
نقول نعم، لن تتوقف اسرائيل عن عدوانها إلا خوفا من قوة أكبر منها. ولكن إذا نظرنا للقرآن الكريم الذي أمر بالجهاد وإعداد العدة ومدافعة الكافرين والمعتدين، نجده أيضا ناظر الكفار ورد شبهاتهم وحاور عقولهم سواء في العهد المكي أو المدني. وهذا يدفعنا لمدافعة الظالمين من بني اسرائيل، واظهار عدوانهم، وشحن أكبر عدد ممكن من الأنصار لقضية فلسطين العادلة، وملاحقة مجرمي الحرب من الساسة والقادة العسكريين في المحاكم الدولية. بل قد تكون هذه من أدوات الدعوة إلى الله، وهداية غير المسلمين الذين يضللون بالدعاية الإسرائيلية فقط. وكذلك فأول ما أطلق مصطلح الإبادة الجماعية كان لضحايا الهولوكوست، واستخدمه الصهاينة كثيراً في شرعنة حركتهم وقضيتهم واحتلالهم لفلسطين، لذلك يجن جنونهم الآن حين يتم اتهامهم به أو عند أي محاولة لاتهمامهم بممارسة الإبادة، حيث أن هذا يناقض لب قضيتهم.
فهي إذا أداة أخرى من أدوات المعركة المتعددة التي لا ينبغي التفريط بها، ولكن دون الاعتماد عليها وحدها.