دراسات معاصرة

السياسة الشرعية والإسلام السياسي – مقاربة تأصيلية

مدخل لاستجلاء مفهوم السياسة من المنظور الغربي
في محاولة لاستقصاء المفهوم الغربي للسياسة ودلالاتها سنجد صعوبة بالغة في ذلك نظراً للاختلاف الكبير والتنوع الشاسع في فلسفتها بين مدرسة وأخرى… وهنا نجد تعريفات كثيرة لكلمة السياسة تختلف باختلاف الاتجاهات وزوايا الرؤى : فالسياسة عند الليبراليين غيرها عند الواقعيين والسياسة عند دعاة المذهب الفردي غيرها عند دعاة المذهب الجماعي والسياسة عند دعاة الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق غيرها عند الماركسيين أو دعاة التخطيط المركزي وسيطرة الدولة على الإنتاج والتوزيع .

ما يهمنا حقيقة ليس تلك التعاريف المنثورة في القواميس والموسوعات العلمية بقدر ما يمثل الواقع السياسي المعاصر لعالم اليوم . ودعونا نلقي الضوء على فلسفة المدرسة الواقعية للسياسة دون غيرها في هذه الدراسة لأنها تمثل الواقع العملي لسياسة الدول الكبرى ، وقد ظهرت غداة الحرب العالمية الثانية ارتباطاً ببداية حقبة الحرب الباردة ، حيث كانت بمثابة الثورة على النموذج المثالي الليبرالي الذي كان يهيمن على تحليل السياسة الدولية خلال حقبة ما بين الحربين العالميتين ، فبقيت هي النظرية السائدة إبان الحرب الباردة ولم تنته حتى ساعته ولا تبدو لها أية نهاية في الأفق . وهي بدورها مرت بمراحل تطور عديدة من الواقعية الكلاسيكية والمتمثلة في مبادئها الستة في كتاب عميدهم مورجنثاو ( السياسة بين الأمم ) الصادر عام 1948 : والتي تتلخص في كون سياسات الدول تمثل انعكاساً للطبيعة البشرية القائمة على الشر والأنانية . وهذا الافتراض فتح باباً كبيراً لنقد الواقعية من قبل خصومها الليبراليين وصل إلى حد نعتها باللاأخلاقية . بعد ذلك وفي مرحلة أخرى لتطورها جاءت جهود كينيث والتز في كتابه الشهير ( نظرية السياسة الدولية ) الصادر عام 1979 ، ليؤسس ما عرف بالواقعية البنيوية أو النسقية وانتهاء بجهود جون ميرشايمر ؛ حيث تجاهلت هذه النظرية فرضية الطبيعة البشرية وركزت على تأثير بنية النسق الدولي والذي يتكون من عدد من القوى العظمى يسعى كل منها إلى البقاء ، ولما كان النسق يتسم بالفوضى نظراً لعدم وجود سلطة عليا فوق الدول تحميها من بعضها البعض ، فإن كل دولة تسعى ذاتياً للحفاظ على بقائها ويرى والتز أن هذه الحال سوف تقود الدول الأضعف لإحداث التوازن بكل الطرق مع منافسيها الأقوى لدعم قوتها بصورة تراكمية . ويتضح مما سبق أن دعامتا التحليل الرئيسيتان لدى الواقعيين عموماً في القوة والمصلحة القومية ، باعتبار أن العلاقات الدولية هي علاقات قوى تحركها مصالحها القومية ، كما أن صلب السياسة الدولية هو الصراع من أجل القوة . وقد واجهت كماً هائلاً من الانتقادات من خصومها في الغرب .

ويعلنها صراحة مورجنثاو وبرأي يحمل طابع مكيافيلي بامتياز ، فيما يخص دور القيم الأخلاقية المسيحية في السياسة المعاصرة : ” تظهر الإشكالية الأخلاقية في السياسة نتيجة التناقض بين الأوامر الواردة في التعاليم المسيحية ، والمثل الأخلاقية المسيحية من ناحية ، وبين متطلبات النجاح السياسي من ناحية أخرى ، فمن المستحيل – إن أمكنني أن أقول بعبارات قوية ومبالغ فيها نوعاً ما – أن تكون سياسياً ناجحاً ومسيحياً متديناً ” . والنتيجة العامة لتسيد السياسة على مجالات الحياة وفيها الدين ، هي ترقية السياسة إلى المكانة التي احتلها الدين من قبل المجتمع بأكمله ، وتصبح ( السلطة القسرية ) وهي القيمة الأسمى ، متجسدة في جوهر الدولة ، بما أن الدولة هي وحدها من يحتكر القوة القسرية . ومرة أخرى يعلل مورجنثاو إصراره على فصل الدين عن السياسة بتعليل غريب إذ يقول : ” أرى من الصعب جداً أن تكون مسيحياً يعمل في السياسة ، لأن هدف الإنسان في السياسة هو الهيمنة على إنسان آخر ، أي استخدام إنسان ما كالآلة بوصفه وسيلة لتحقيق غايات شخصية ، وهذا إنكار صريح للأخلاق اليهودية والمسيحية ، فالفعل السياسي يتعارض بصورة شديدة جداً مع القيم الأخلاقية المسيحية ويتعارض معها بكيفية لا توجد في الفعل غير السياسي ” .
يمكننا القول فيما يتعلق بكلتا النظرتين إن ( نموذج الصراع ) يطغى عليهما ، فسواء كنا نزعم وضوح استقلال السياسة بذاتها أم نصبغ الحياة الإنسانية كلها بصبغة واحدة ، تعتبر النظرتان الحياة الإنسانية في جوهرها ساحة للصراع لا التعاون ، وفرض الذات لا القيم المشتركة ، إذ لسنا اجتماعيين بالفطرة ومتعاونين بالتبعية ، بل نحن أفراد مستقلون بصورة ما ينبغي أن نجبر على الحياة معاً ، فنحن لم نخلق للصداقة ، بل للعداوة . إننا إذ نختلف مع أتباع مورجنثاو وفوكو ، على حد سواء ، فمعتقداتهم عن السياسة تضر كثيراً بفهم الحياة الإنسانية ، لذا علينا أن نتغلب على هاتين الفرضيتين لأنهما تمنعان عنا أي أفكار جديدة مفيدة عن أمور الشؤون الإنسانية ، كالعلاقة بين الدين والسياسة .

السياسة وعلاقتها بالدين بالمنظور الغربي.
ماذا تعني مقولة ” لا دين في السياسة ” أتعني أن السياسة لا دين لها فلا تلتزم بالقيم والأخلاق الدينية وإنما هي براجماتية تتبع المنفعة حيث كانت ، المنفعة المادية أو الحزبية أو القومية . وترى أن المصلحة المادية فوق الدين ومبادئه وأن الله وأمره ونهيه وحسابه لا مكان له في دنيا السياسة . وهي في الحقيقة تتبع نظرية ميكافيلي التي تفصل السياسة عن الأخلاق وترى أن ” الغاية تبرر الوسيلة ” وهي النظرية التي يبرر بها الطغاة والمستبدون مطالبهم وجرائمهم ضد شعوبهم . إن الدين الحق إذا دخل في السياسة دخل دخول الموجه للخير والهادي إلى الرشد فهو لا يرضى عن ظلم ولا يتغاضى عن زيف ولا يسكت عن غي . والدين إذا دخل السياسة هداها إلى الغايات العليا للحياة والإنسان : توحيد الله وتزكية النفس وسمو الروح وتحقيق مقاصد الله من خلق الإنسان: عبادة الله وخلافته في الأرض وعمارتها بالحق والعدل . إن تجريد السياسة من الدين يعني تجريدها من بواعث الخير وروادع الشر ولقد رأينا المسلمين في عصورهم الذهبية حيث ارتبطت سياستهم بالدين فتحوا الفتوح وانتصروا على الإمبراطوريات الكبرى وأقاموا دولة العدل والإحسان .

ثم نحن نرى اليوم الدولة الصهيونية المغتصبة ( إسرائيل ) كيف وظفت الدين اليهودي في إقامة دولتها وتجميع اليهود في العالم على نصرتها . ونرى كذلك بعض الرؤساء الأمريكيين أمثال ( بوش الابن ) وجماعته من أتباع اليمين المسيحي المتطرف كيف يستخدمون الدين في تأييد سياستهم الطغيانية حيث رأينا ( بوش ) يتحدث وكأنه نبي يوحى إليه : أمرني ربي أن أحارب في العراق .. أمرني ربي أن أحارب في أفغانستان .. إلى آخر ما أعلنه من صدور أوامر إلهية إليه !! ورأينا كذلك أحزاباً علمانية الفكر في أوروبا تحاول أن تتقوى بالدين وتنسب نفسها إليه أي إلى المسيحية فرأينا أحزاباً مسيحية ديمقراطية واشتراكية في عدد من دول أوروبا ، وتحصل على أكثرية من أصوات الناخبين وتتولى الحكم عدة مرات . فلماذا يستدعون الدين ويقحمونها في السياسة متى شاءوا ويراد للمسلمين وحدهم أن يفصلوا السياسة عن الدين لتمضي الأمة معزولة عن سر قوتها .

ومن جهة أخرى ورغم المحاولات المقصودة من قبل العديد من مفكري العصر السياسيين الرامية إلى تطهير المجال العام من الدين حسب زعمهم ، عاد الدين بغير قصد إلى الظهور تحت اسم السياسة . كيف أنهم برغم محاولاتهم الرامية إلى عزل الدين في نطاق الضمير الفردي الداخلي والخاص لم يتمكنوا إلا من تقديس السياسة ربما عكس ما أرادوا ؟ كيف برغم محاولاتهم استبعاد ما هو مقدس من الحياة العامة لم ينجحوا إلا في نقل ( هالة القدسية ) مما هو اكليركي إلى السيادة الدنيوية دون علم . كيف أصبحت الدولة تستحق الفداء بل وفي حالات عديدة أسمى من الدين ، حتى وإن أدت نفس الدور الذي كان يؤديه الدين في وقت ما ؟ لماذا صارت سلطتها الشرعية على الحياة والموت غير قابلة للنقاش على نحو شبه تام ، مثل أي بيان صادر عن الفاتيكان بمقتضى السلطة المطلقة ، كيف لمؤسسة دنيوية في العادة أن تكتسي مثلاً بصبغة دينية بأن صارت مركز الطاعة المطلقة ؟

الإسلام السياسي وما يراد به.
لقد راج مؤخرا مصطلح الإسلام السياسي، وأصبح الناس يصنفون بناء على موقفهم منه. بل أصبح جريمة في بعض الدول العربية والغربية، بالذات بعد الربيع العربي، ووصول الإسلاميون للحكم. ثم بدأ البعض الآخر يتحدث عن مرحلة ما بعد الإسلام السياسي لتوصيف تجربة بعض الحركات الإسلامية في الحكم، للوصول إلى نتيجة فشل النظرية والتجربة.
كان أول من استخدم مصطلح الإسلام السياسي الفرنسي أوليفيه روا في كتابه “فشل الإسلام السياسي” عام 1992م وعرفه بأنه (فصائل الملتزمين الناشطين الذين يرون في الإسلام أيدولوجية سياسية بقدر ما يرون فيه ديناً، بحيث أنهم يولجون أنفسهم ويدخلون في قطيعة واضحة مع بعض السنن والتقاليد !! إنها تلك الحركات التي حملت منذ بضعة عقود من السنين، ولا سيما خلال العقد الأخير، لواء الاحتجاج ضد الغرب واضطلعت بمناهضة الأنظمة القائمة في الشرق الأوسط). وهو يصرح في كتابه بأن هدفه ليس دراسة العلاقة بين الإسلام والسياسة، وبالتالي صوابية هذه الحركات من وجهة نظر إسلامية، بل جل اهتمامه هو تأثير هذه الحركات على مصالح الغرب في بلادنا وكذلك أثرها على العمال المهاجرين للغرب ومدى اندماجهم في البوتقة الغربية.

ويرجع روا بداية هذه الحركات إلى ثلاثينيات القرن العشرين حيث (بادر حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين في مصر، وأبو الأعلى المودودي، مؤسس حزب “جماعت اسلامي” الهندي الباكستاني إلى ايجاد حركة فكرية جديدة في تعريف الإسلام كنظام سياسي في الدرجة الأولى، وذلك على ضوء أبرز ايدولوجيات القرن العشرين. إلا أنهما سيضيفان طابع الشرعية على هذا التجديد بخطاب حول “العودة” : العودة إلى النصوص وإلى الإلهام الأصلي، إلهام الجماعة المؤمنة الأولى)، متناسيا عن قصد أكثر من 1300 عام حكم فيها الإسلام معظم الأرض المعمورة بنظامه الخاص المنبثق عن الكتاب والسنة، وإن تراجع التطبيق في بعض المراحل وضعف في أواخر الدولة العثمانية.
ومسكوناً بالخوف من أثر هذه الحركات المحتمل على الغرب ومصالحه في الشرق، سعى جاهداً لإقناع العالم بفشلها وعدم قدرتها على الصمود أمام إغواء السلطة.

لا يعنينا في هذا البحث أوليفيه روا، ولا ما توصل إليه في كتابه، فهو مليء بالأخطاء والتناقضات، وأثبتت الأحداث المتتالية منذ 1992م خطأ تنبؤاته. من المفارقة الكبيرة أن تنطلي هذه الحقيقة على مثقفين وباحثين ينتمون إلى البيئة الاجتماعية والثقافية الإسلامية، فيتسابقون إلى استعمال هذا المصطلح وتبادله، كما لو كان موضوعيا وبريئا، من خارج البيئة الفكرية الإسلامية، ويحمل تحريفا لطبيعة الإسلام وروحه ومنهجه . إن هذا التوصيف يتساوق في دلالاته تلك، مع هدف المحاولة العلمانية الرامية إلى تصوير أن كل من يسعى لإحياء روح الإسلام وفاعليته وشموله لمختلف جوانب الحياة؛ واقع في “خطيئة الإسلام السياسي”، أي تحريف الإسلام، وصرفه عن طبيعته الروحية المحضة! وبلغ الأمر ببعضهم ليصل الأمر بهم حد تصويره المعادل للإرهاب والعنف والتشدد.

ليس هناك إسلام تقدمي وآخر رجعي، وليس هناك إسلام ثوري وآخر استسلامي، وليس هناك إسلام سياسي وآخر اجتماعي، أو إسلام للسلاطين وآخر للجماهير. هناك إسلام واحد، كتاب واحد، أنزله الله على رسوله، وبلغه رسوله إلى الناس. وبعد البلاغ صارت “الأمانة” في أعناق الناس ومن مسؤولياتهم”، فإذا تعددت الاجتهادات يمينا ويسارا، وإذا تراوحت الاجتهادات صعودا وهبوطا، وإذا أحسن البعض فهم الإسلام أو أساء؛ فذلك شأن المسلمين أولا وأخيرا، وينبغي ألا يحمل بأي حال على الإسلام .

مفهوم السياسة الشرعية عند فقهاء المسلمين.
لم أقف على مصطلح (السياسة الشرعية) في كلام الفقهاء المتقدمين، والمصطلح المستعمل عندهم، والمرادف لمصطلح (السياسة الشرعية)، هو مصطلح (السياسة). ويلاحظ أن كتب الفقهاء المتقدمين قد اشتملت على الأحكام (الفقهية) والأحكام (السياسية) دون تمييز بينها، وأن التمييز بين هذين النوعين من الأحكام لم يظهر إلا مع الفقهاء المتأخرين، وتحديدا مع ابن قيم الجوزية. والحنفية هم أكثر من استعمل مصطلح (السياسة) أما الشافعية فاستخدموا مصطلح (المصلحة). وكان ابن قيم الجوزية أصرح من استعمل مصطلح (السياسة الشرعية)، حتى إنه سمى كتابا بهذا المصطلح، جعله تحت عنوان: “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية” ومن تعريفات المتقدمين تعريف ابن عقيل (ت 513هـ)، فقد عرفها بقوله: “السياسة ما كان من الأفعال، بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي”

ومن تعريفات المعاصرين تعريف الشيخ عبد الوهاب خلاف فقد عرفها بأنها: “تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية، بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار، مما لا يتعدى حدود الشريعة، وأصولها الكلية”.
وقال عبد الرحمن تاج : هي اسم للأحكام والتصرفات التي تدبر بها شؤون الدولة الإسلامية في حكومتها وتشريعها وقضائها وفي جميع سلطاتها التنفيذية والإدارية وفي علاقاتها الخارجية التي تربطها بغيرها من الأمم .
ويلاحظ هنا أن معظم التعريفات تتعلق أكثر ما تتعلق بأحكام وقرارات الحاكم ونظم الدولة وأقرب ما يكون هذا إلى الأحكام السلطانية وليست السياسة الشرعية هذا فقط وإنما ذلك بعض من السياسة الشرعية .
ويمكننا أن نقول إن السياسة الشرعية هي : تلك القرارات والأحكام التي تصدر عن ولي الأمر ( حاكما أو عالما ) فيما جاء به النص بحسب تطبيقه وتنزيله وفيما لا نص فيه بما يحقق للأمة مصلحتها مع مراعاة مقاصد الشريعة وتجنب مخالفتها ، وهذا يعني أن السياسة الشرعية : أساسها الشريعة ومرتكزها العقيدة تعززها العبادات وتحوطها الأخلاق من كل جانب .
أي أن السياسة الشرعية لا تقتصر على ما نطق به الشرع، بل تشمل أيضا ما لم يرد فيه نص، بشرط ألا تخالف دليلا معتبرا، أو أصلا شرعيا، أو مقصدا كليا.
ونرى هنا الفرق الهائل بين المفهوم الإسلامي للسياسة، وهي قيام الحاكم لى مصالح الناس الدينية والدنوية، في حين تكون السياسة الغربية ما يحقق مصلحة الحاكم واستمراريته في الحكم، بغض النظر عن مصالح المحكومين.

السياسة في القرآن الكريم.
نلحظ الاختلاف الكبير في تعريف وتحديد مصطلح السياسة بين موسع ومضيق، ولكن مهما كان التعريف والمأخذ، فإننا نجد أن القرآن الكريم أشار إليه صراحة أو تلميحاً، فالله تعالى الذي جعل حياة الإنسان كلها مرتبطة – وهذا هو حقيقة معنى الإسلام – قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)
فهناك عشرات الآيات تتحدث عن السياسة الشرعية في ثنايا سور القرآن :
ففي تدبير الدولة وسياسة الملك خاصة أوقات الأزمات الاقتصادية والتعامل مع المخالفين نجد الكثير منها في سورة يوسف .
وآيات الجهاد وأحكامه نجدها في سور كثيرة كالبقرة وآل عمران والنساء والحج ومحمد وغيرها
وأحكام السلم والهدنة والأسرى نجدها في سورة الأنفال والتوبة وغيرها
وأحكام الدعوة إلى الإسلام قبل القتال وإرسال الرسل وصفة إرسالهم نجدها في سورة النمل
ونقرأ في إدارة الدولة أيان الفتن والاضطرابات في سورة الأحزاب وفي الفتوحات والانتصارات في سورة الفتح
ونقرأ في أحكام البغاة والردة والخروج على الأمة وموالاة أعدائها في سورة الحجرات والمائدة والممتحنة
هذا في الآيات الصريحة الدالة على أحكام السياسة الشرعية أما غير الصريحة فكل القرآن هداية ودلالة على أمور السياسة الشرعية ، وقد فسرها العلماء في كتب التفسير التي أصبحت بهذا مرجعا مهما في باب السياسة الشرعية .
فرب قائل يقول إن آيات الله في القرآن محدودة، والنوازل والقضايا لاتحد بزمان ولا مكان، فنقول إن هذا صحيح، فقد جاءت آيات الله عامة يندرج تحتها الكثير من المسائل، وهناك تفاصيل كثيرة جداً في السنة النبوية، ثم الإجماع الذي انعقد أيام الصحابة، ثم القياس والمصالح المرسلة والعرف وشرع ما قبلنا، وغيرها من مصادر التشريع، ثم يأتي ما يسمى بالسياسة الشرعية، التي تحدث عنها فقهاء الإسلام على مر العصور، وهي تدبير شؤون الدولة الإسلامية بما لم يرد في النص، أو في ما يتغير أو يتبدل في سبيل مصلحة الأمة، وبما يكون متفقا مع أصول الشريعة الإسلامية العامة وأحكامها.
هذه نماذج من التوجيهات القرآنية في شأن السياسة، والتي وضعت أطرا عامة على المسلمين اتباعها والاجتهاد في تطبيقها وتنزيلها على الواقع، ثم لهم الاجتهاد بعد ذلك في مستجدات المسائل ضمن ضوابط الشرع وحدوده.

السياسة في السنة النبوية.
هل عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالسياسة، أم أنه كان داعياً إلى الله، يعرفهم به، ثم يكلهم إلى ضمائرهم؟ وإذا كان قد عمل صلى الله عليه وسلم بالسياسة، فهل هذا أمر خاص به، أم هو قدوة لأمته في ذلك؟ وهل وضع النبي صلى الله عليه وسلم نظاماً سياسياً واضح المعالم؟ أم هو متروك للناس الاجتهاد فيه ؟
نقول إبتداءً أن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لأمته في تصرفاته وأقواله. قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يرْجُو اللَّهَ وَالْيوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)
ومن تصرفاته السياسية صلى الله عليه وسلم، إقامته لدولة المدينة التي كان يرأسها، ورتب شؤون المواطنين بها من مهاجرين وأنصار في بيعة العقبة الثانية، ثم رتب علاقته مع اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة، بالوثيقة المشهورة. ثم نظم الجهاد ضد قريش، وتخلل ذلك إقامة صلح الحديبية معهم، ولما نقضوه فتح مكة. وراسل الملوك في الدول المجاورة ودعاهم للإسلام، ودخل في حرب في حياته مع الروم. وأثناء ذلك كان يقيم الحدود ويفصل في الخصومات فيمن تبعه من المسلمين، بل حتى أقام الحدود على اليهود، وقاتلهم لما نكثوا عهدهم. فكانت أفعاله صلى الله عليه وسلم تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين المحكومين بعضهم ببعض، ومع المخالفين له من معاهدين أو مقاتلين. فكل هذه أفعال سياسية قام بها ومارسها في حياته صلى الله عليه وسلم.

كما بينت السنة واجبات الحكام تجاه المحكومين، فقال: (الإمام راع ومسئول عن رعيته) متفق عليه، وحذر الولاة من الغش لرعيتهم، فقال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة). وأمر الولاة بالرفق برعيتهم،. وضرب لهم المثل في إقامة الحدود والقانون وتطبيقه على الجميع بدون محاباة، ففي الحديث (أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أسامة ، أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب ، فقال : إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله ! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطعت يدها) .

وفي مقابل قيام الأئمة والولاة بواجباتهم تجاه رعاياهم، فعلى الرعية واجبات تجاه أئمتهم وحكامهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي ما أقام فيكم كتاب الله) ، وطبعا هذه الطاعة مشروطة بعدم الوقوع في معصية الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة). ونهاهم عن منازعة الحكام المسلمين والخروج عليهم، فعن عبادة بن الصامت قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: (أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحاً، عندكم من الله فيه برهان). وأمرهم بالجماعة وعدم الخروج على الحاكم المسلم، فقال: (من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية)
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمة رقيبة على الحكام، تنصحهم وتقومهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)
أما بالنسبة للعلاقات الخارجية للدولة المسلمة: فمع المخالفين، فأمر بقتال المشركين الذين رفضوا الخضوع للإسلام والمسلمين، فقال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) ، أما من كان من أهل ذمة المسلمين، أو معاهداً لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصبعه إلى صدره ألا من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله حرم الله عليه ريح الجنة وإن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفا ) .

المؤلفات في السياسة الشرعية.
ويعنينا هنا اثبات أن الدعوة لإقامة دولة بمرجعية اسلامية والعمل على ذلك ليس وليد أفكار حسن البنا والمودودي، وليس اختلاسا من النظريات الغربية الحديثة مع إلباسها لبوسا شرعيا، بل هذا ما توارثه علماء الشريعة كابرا عن كابر منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يعترض البعض بأن التنظير للسياسة الشرعية كان متأخرا، وإنما وضعه البعض ارضاء لحكام عصرهم، فنقول وبالله التوفيق:
يقول محمد شاكر الشريف في بحثه «قراءة في كتب السياسة الشرعية بين القديم والحديث»: (من المعروف أن وجود العلم يسبق تدوينه بمدة، تطول أو تقصر، فتدوين العلم لاحق على وجوده، وذلك أمر موجود في كل العلوم الدينية والدنيوية… ويمكننا أن نقول إن الكتابة في السياسة الشرعية مرت بثلاثة أطوار:
(الطور الأول) كانت بدايات كلام العلماء في ذلك الباب مرتبطة بالرواية التي كانت تعتمد في أول الأمر في أغلب أحيانها على النقل الشفوي.
(الطور الثاني) انتقل كلام العلماء للتدوين لكنه كان ممتزجا بما كتب من تفسير القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف… ومما يمثل كتب هذا الطور كتب الحديث والفقه وكذلك العقائد فقد ضمنت هذه الكتب فصولا عن الإمارة والشورى والجهاد وأحكام البغاة والحدود والجزية…
(الطور الثالث) انتقلت الكتابة إلى افراد مسائل السياسة الشرعية أو بعضها بالتصنيف… وفي دراسة د. نصر محمد عارف توصل إلى وجود أكثر من 300 مؤلف في مسائل السياسة الشرعية، والتي طبع منها أكثر من 100 مؤلف علما بأن هذا لا يمثل جميع ما كتب .
مع ضرورة ملاحظة أن تاريخ تصنيف هذه الكتب والذي بدأ من 200 هـ وما قبل لتتوصل إلى أن ما كتب في السياسة الشرعية وأنظمة الحكم السياسي والإداري والاقتصادي متقدم جداً على ما يدعيه الباحثين الغربيين في اختراعهم ما يسمى بالإسلام السياسي) انتهى ملخصا.
ونعرض الآن لبعض ما كتبه علماء المسلمين في السياسة والحكم، وبناء الأنظمة الحاكمة بمرجعية الكتاب والسنة.

أولاً :
الإمام الماوردي الشافعي (364 – 450هـ) صاحب كتاب «الأحكام السلطانية» والذي وضع كتابه كما يقول في مقدمته : (ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتابا امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته؛ ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه، وما عليه منها فيوفيه؛ توخيا للعدل في تنفيذه وقضائه، وتحريا للنصفة في أخذه وعطائه، فإن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيما خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة؛ ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلا عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة حتى استثبتت بها الأمور العامة، وصدرت عنها الولايات الخاصة، فلزم تقديم حكمها على كل حكم سلطاني، ووجب ذكر ما اختص بنظرها على كل نظر ديني؛ لترتيب أحكام الولايات على نسق متناسب الأقسام، متشاكل الأحكام») (ص13) .
ثم يبين وجوب عقد الإمامة، فيقول: (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع) (ص15). وبعد أن وضع شروطا للإمام، وطرق توليته، تكلم عن واجباته ومسؤولياته،
فقال: (أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة. وحماية البيضة والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين. إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. وتحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرما، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما.وجهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة؛ ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله.وأن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش) (ص40). ثم بين واجب الأمة تجاهه فقال: (وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله) (ص42).

ثانياً :
يقول ابن حزم ( 384 – 456 هـ ) في كتابه ” الفصل بين الملل والنحل ” : ( اتفق جميع أهل السنة على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيها أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة ) ج4،ص 87

ثالثاً :
أبو يعلى الفراء الحنبلي (380 – 458 هـ) صاحب كتاب «الأحكام السلطانية » يقول في الإمامة: (نصبة الإمام واجبة وقد قال أحمد رضي الله عنه – في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي -: الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس ) (ص19).

رابعاً :
الإمام الجويني (419 – 478 هـ ) صاحب كتاب «غياث الأمم في التياث الظلم» يقول: (الإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا. مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الخيف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين) (ص22)، ويقول : (أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا البدار إلى نصب الإمام حقا؛ فتركوا لسبب التشاغل به تجهيز رسول الله ودفنه، مخافة أن تتغشاهم هاجمة محنة. ولا يرتاب من معه مسكة من عقل أن الذب عن الحوزة، والنضال دون حفظ البيضة محتوم شرعا، ولو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم وازع، ولا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع، مع تفنن الآراء) (ص23).

خامساً :
ابن تيمية (661 – 728هـ) صاحب كتاب «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» يقول: (ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا تمام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض تعاونًا وتناصرًا؛ يتعاونون على جلب المنفعة، ويتناصرون لدفع المضرة، إذ الواحد منهم لا يقدر وحده على جلب جميع منافعه، ودفع جميع مضارِّه. ولابد لهم عند الاجتماع من رأس . ولأن الله تعالى أوجب الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، ولا يتمُّ ذلك إلا بقوَّة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجُمَع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة .

سادساً :
بدر الدين بن جماعة (639 – 733 هـ) في كتابه «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام»
(وَيجب نصب إِمَام بحراسة الدّين، وسياسة أُمُور الْمُسلمين، وكف أَيدي الْمُعْتَدِينَ، وإنصاف المظلومين من الظَّالِمين، وَيَأْخُذ الْحُقُوق من مواقعها، ويضعها جمعا وصرفاً فِي موَاضعهَا، فَإِن بذلك صَلَاح الْبِلَاد وَأمن الْعباد، وَقطع مواد الْفساد، لِأَن الْخلق لَا تصلح أَحْوَالهم إِلَّا بسُلْطَان يقوم بسياستهم، ويتجرد لحراستهم (ص48 – 49).

سابعاً :
محمد رشيد رضا (1282 هـ – 1365 هـ) في كتابه «الخلافة » يقول:
«أجمع سلف الْأمة، وَأهل السّنة، وَجُمْهُور الطوائف الْأُخْرَى على أَن نصب الإِمَام – أَي تَوليته على الْأمة – وَاجِب على الْمُسلمين شرعا لَا عقلا فَقَط كَمَا قَالَ بعض الْمُعْتَزلَة، وَاسْتَدَلُّوا بِأُمُور لخصها السعد فِي متن الْمَقَاصِد بقوله: لنا وُجُوه: (الأول) الْإِجْمَاع وَبَين فِي الشَّرْح أَن المُرَاد إِجْمَاع الصَّحَابَة قَالَ: وَهُوَ الْعُمْدَة، حَتَّى قدموه على دفن النَّبِي صلى الله عليه وسلم (الثَّانِي) أَنه لَا يتم إِلَّا بِهِ مَا وَجب من إِقَامَة الْحُدُود وسد الثغور وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يتَعَلَّق بِحِفْظ النظام (الثَّالِث) أَن فِيهِ جلب مَنَافِع وَدفع مضار لَا تحصى وَذَلِكَ وَاجِب إِجْمَاعًا (الرَّابِع) وجوب طَاعَته ومعرفته بِالْكتاب وَالسّنة، وَهُوَ يَقْتَضِي وجوب حُصُوله وَذَلِكَ بنصبه . (ص18).

دعوى : قلة النصوص في مسائل السياسة الشرعية
يردد البعض مقولات عن قلة النصوص في مسائل السياسة الشرعية و ” أنه لم يرد في الشريعة إلا القليل من النصوص التي تضبط الاتجاه العام والخطوط العريضة ” فحسب وأنها في غالب الأحيان ” تصمت صمتاً مطبقاً في بعض الأمور المتغيرة ” لذا فإننا ” سنحصل على كثير من الآراء الظنية وسنشعر أننا نقف على أرض هشة “
إن طبيعة الشريعة الإسلامية أنها تبين ما يحتاجه الناس من الأحكام بطرق متعددة من البيان فقد تبين الحكم بمنطوق الدليل أو بمفهومه سواء كان من قبيل مفهوم الموافقة أو المخالفة وقد تبين الحكم بالعموميات وقد تدل عليه بالتنبيه على العلة عن طريق القياس وقد تدل عليه باتفاق المجتهدين على الحكم وتبينه بالقواعد والمصالح وقد يكون ذلك بسنة الخلفاء الراشدين وتطبيقاتهم التي وافقهم عليها سائر الصحابة .. وإذا نظرنا إلى أدلة الشريعة بهذا الشمول نجد أن ادعاء قلة النصوص ليس في محله .

وأيضا فإن مدعي قلة النصوص في السياسة الشرعية خفي عليه معرفة موقع السياسة في ديننا فالأحكام السلطانية في الإسلام واسعة وعامة أحكام الدين لها تعلق بالسياسة بطريقة أو أخرى . والنصوص الشرعية من الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح من الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم هي بالمئات . وقد وردت نصوص كثيرة في الحكم والتشريع والرعية وحقوقها والحاكم وحقوقه والإمارة والطاعة والاستخلاف والبيعة والأمر بالعدل والمعروف والنهي عن الفحشاء والمنكر وفي القضاء وأحكامه وفي مسائل الحرب والسلم وفي أحكام المعاملات المالية والأحوال الشخصية وتقدير المصالح وتحصيلها وتقديم الأعظم منها على الأقل منها ودفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى وباعتبار المآلات وغير ذلك من القواعد والجزئيات وقد بسطنا شيئاً منها في فقرة السياسة في القرآن الكريم والسنة النبوية .
وبعد ذلك كله فإن من آتاه الله علماً وفهماً يستطيع أن يستنبط كثيراً من أحكام السياسة الشرعية من نصوص ليس ظاهرها في السياسة كما هو مبسط في كتب أهل العلم . بل إن السياسة الشرعية دخلت إلى كتب الاعتقاد فيما يتعلق بالجماعة والإمامة ونحوها . فالسياسة الشرعية تسري في مؤلفات عامة الفنون والعلوم وليس هذا وحسب بل صنفت مئات الكتب والمفردة في هذا بعناوين متعددة كالسير والأموال والأحكام السلطانية والسياسة الشرعية كما تقدم في فقرة المؤلفات في السياسة الشرعية . فالمسألة ليست في عدم وفرة النصوص بل القدرة على فهم النصوص واستنباط الأحكام منها وقبل ذلك القناعة بكفاية الشريعة لما يحتاجه الناس في هذا الباب .

وإن قصد أن القلة نسبية وذلك بالنظر إلى النصوص الأخرى الواردة في أبواب العقائد والعبادات فهذا حق ولا يضر لأن قلة أو كثرة النصوص إنما جاء لطبيعة المبين بتلك النصوص وأبواب الشريعة متفاوتة في هذا الأمر . فالعبادات والعقائد من الأمور التوقيفية التي يضيق فيها القياس والاجتهاد فاحتاجت إلى نصوص أكثر تفصيلاً بخلاف السياسة الشرعية التي هي توقيفية الأصول واجتهادية في كثير من التفاصيل . فالقلة في نصوص السياسة الشرعية نسبية مقارنة بأقرانها من أبواب الفقه وليست قليلة بذاتها كما يصورها البعض حتى أنه يكاد يصورها شبه معدومة وأنه يملك مطلق الحرية في الاجتهاد دون قيود تحد اجتهاده . كما أن لقصور الفهم الحاصل عند العديد ممن يتناول مسائل السياسة الشرعية يظن أنها لا تحوي أحكاماً فيحيل هذا القصور على النصوص ويدعي قلتها أو أنها لا تفي بالغرض .

ويشهد لما سبق تقريره من بطلان القول بقلة النصوص في مسائل السياسة الشرعية : قيام الدولة الإسلامية واستمرارها منذ عهد النبوة إلى سقوط الدولة العثمانية على مدى ألف وثلاث مئة سنة ومع أنه اعترى هذه الدولة نقص في بعض الجوانب . فلو تأملنا طريقة الحكم وأنظمته : الإدارية والعسكرية والمالية والتعليمية وغيرها وكيف تبدلت الأحوال وتغيرت الظروف وكيف تطورت الدولة من خلافة الصديق إل سقوط الخلافة العثمانية فسنكون أمام احتمالين لا ثالث لهما ، إما الدولة الإسلامية تمكنت من خلال قادتها وفقهائها وخبرائها من فهم النصوص والاجتهاد فيها بما حقق لها هذه التطور والبقاء والتقدم الحضاري بكل أشكاله من شتى العلوم والخبرات من مختلف الأجناس . وإما أنها تركت نصوص الشريعة لقلتها وقصورها وشحها في الجوانب الإدارية والسياسية والعسكرية والمالية وذهبت تستورد نظماً وطرق حكم من هنا وهناك أو تجتهد في إدارة شؤونها بما تراه دون ضابط شرعي لها . ولا يمكن لعاقل أن يقول الثاني لأنه يعني حينئذ إخراج هذه الدول عن وصفها بالإسلامية التي تعتمد الشريعة مرجعاً لها ولأنه لم يحصل في الحقيقة والواقع .

يقول ابن القيم في معرض التدليل على مرونة السياسة الشرعية وقابليتها للتطور في كتابه الفذ ( الطرق الحكمية ) : ” والمقصود أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة تختلف باختلاف الأزمنة فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة ولكل عذر وأجر ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين ، وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة وأضعافها هي من تأويل القرآن والسنة . ولكن هل هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة أم من السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زماناً ومكاناً ؟ “
وأخيراً لعله من اللافت أن نجد القائلين بقلة النصوص في أبواب السياسة الشرعية في المسائل التي وردت فيها نصوص شرعية قاطعة وافق عليها أهل العلم عبر العصور نجدهم رافضين لما دلت عليه النصوص الشرعية من أحكام تارة بذريعة التجديد وتارة بذريعة المقاصد وأخرى بدعوى ظنية دلالة النصوص ونحوها كمسائل أحكام غير المسلمين في الدولة الإسلامية ( أهل الذمة ) وولاية المرأة ونحوها . فحين وجدت النصوص لم يأخذوا بها مما يلقي مزيداً من الضوء على حقيقة دعوى قلة النصوص الشرعية والهدف منها .

دعوى التعارض بين المصلحة والنص وتقديم المصلحة وتعطيل النص
يقول د عابد الجابري في كتابه ( الدين والدولة وتطبيق الشريعة ) : ” أن الصحابة كثيراً ما نجدهم يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة صارفين النظر عن النص ولو كان صريحاً قطعياً ! إذا كانت الظروف الخاصة تقتضي مثل هذا التأجيل للنص ” ولقد ذكر الجابري بعد ذلك : أن الممارسة الاجتهادية للصحابة كانت تتخذ المصلحة مبدءاً ومنطلقاً فإذا تعارضت المصلحة مع النص في حالة من الحالات وجدناهم يعتبرون المصلحة ويحكمون بما تقتضيه ويؤجلون العمل بمنطوق النص فيها ؟
هؤلاء يتكئون على مقولات تزعم أن عمر بن الخطاب عطل النصوص القرآنية باسم المصالح . وإننا نعيذ عمر أن يفعل ذلك وقد كان وقافاً عند كتاب الله ، وقد كانت رعية عمر من الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين لا يقبلون بحال أن يعطل كتاب الله وأن يبدل شرع الله وهم ساكتون لو افترضنا أن عمر فعل ذلك وما هو بفاعل ما قبل هؤلاء أبداً وفيهم عرق ينبض.
وقد يعترضون ببعض الحوادث ليدلل على أن الصحابة لم يعملوا بالنص الشرعي بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، بل قدموا العمل بالمصلحة عند التعارض، ويستدلوا بمسائل منها، منع عمر سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وايقاف حد السرقة في عام الرمادة، وعدم تقسيم أرض العراق على المقاتلين، وعدم أخذ الجزية من نصارى تغلب. وهذه ادعاءات ضعيفة .
ولننظر الآن إلى نص الرواية الأولى (جاء عيينة بن حصين والأقرع بن حابس إلى أبي بكر- رضي الله عنه- فقالا: يا خليفة رسول الله، إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعناها. قال فأقطعها إياهما وكتب لهما عليه كتابا ، وأشهد عمر وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر ليشهداه، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل فيه فمحاه، فتذمرا وقالا له مقالة سيئة فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يتألفاكما والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما لا أرعى الله عليكما إن أرعيتما ثم أتى أبا بكر فقال له: أكُلَّ المسلمين رضوا بهذا؟ فقال له أبو بكر رضي الله عنه: وقد قلت أنك أقوى على هذا الأمر مني) وهذا الحديث لم يرو بسند متصل إلى عمر، وحتى لو صح فإن عمر لم يلغ سهم المؤلفة قلوبهم، بل منع بعض من أخذ هذا السهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم منه في عهد أبي بكر، ولذلك لأن صفة المؤلف قلبه لا تبقى مع الإنسان أبد الدهر، بل بحسب حاجة المسلمين وظروفهم، وحاجتهم إليه، ألا ترى أن الفقير اذا اغتنى، منعت عنه الزكاة، وابن السبيل إذا عاد لأهله منع من الزكاة، وكذا غيره من الأصناف، فالحكم لم يلغ، ولكن منع بعض من أخذ هذا السهم لتغير حاله.
وكذا يقال في عام الرمادة، فهذه الحادثة ثابتة تاريخيا، وان لم يأت حديث صحيح يبين أن عمر قد ترك إقامة الحدود في هذا العام، وكذا يقال عن رواية عدم إقامة الحد على غلمان حاطب بن أبي بلتعة، فكلها لم تصح، وإذا تجاوزنا بها، فلنتجاوز إذا بخبر (ادرؤوا الحدود بالشبهات) والجوع والحاجة الشديدة من الشبهة، وكذلك خبر (لاتقطع الأيدي في الغزو)، فهو ليس ترك للنص، بل اجتهاد في إعمال نص مقابل نص آخر.

أما بالنسبة لتقسيم أرض العراق، فقد روي أن عمر كتب إلى سعد حين افتتح العراق: (أما بعد: فقد بلغني كتابك تذكر أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس به عليك إلى العسكر من كراع أو مال، فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأراضين والأنهار لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بقي بعدهم شيء). بل روى البخاري في صحيحه عن عمر أنه قال: (أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس ببانا ليس لهم شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها)، وكان هذا بعد رجوعه لآيات سورة الحشر التي تحدثت عن الفىء، والأرض التي فتحت صلحا، وكثير من مدن العراق والشام قد فتحت صلحا، وقال عمر رضي الله عنه: (ما من أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب، إلا العبيد لهم فيه شيء، وقرأ: (ما أفاء الله) [الحشر: 7] حتى بلغ: (والذين جاءوا من بعدهم) [الحشر: 10]، فقال: هذه استوعبت المسلمين). فترك عمر النص لنص آخر، وعمل بمبدأ الفيء مع الأراضي المفتوحة.
يقول ابن القيم ” إن الأرض لا تدخل في الغنائم والإمام مخير فيها بحسب المصلحة وقد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم وترك وعمر لم يقسم بل أقرها على حالها وضرب عليها خراجاً مستمراً في رقبتها تكون للمقاتلة ” .
أما نصارى تغلب، فلم يصح أن عمر أسقط عنهم الجزية أو غير اسمها، بل الثابت أنه فرض عليهم ضعف غيرهم، ولا تترك الروايات الصحيحة الثابتة، لروايات ضعيفة.

تقييم التجارب الإسلامية السياسية المعاصرة
لقد رفعت الجماعات الإسلامية منذ سقوط الخلالفة عام 1924م لواء تحكيم الشريعة وعودة الحكم الإسلامي ووحدة الأمة. وخاضت تجارب مريرة ولمدة مائة عام من أجل تحقيق هذه الأهداف. وقد وصل الإسلاميون للحكم في مصر والسودان والصومال وتركيا وأفغانستان وفلسطين والمغرب وتونس، ولكن وللأسف الشديد لم تستمر معظم هذه التجارب، أو فشلت في أدائها، أو لم تلتزم بما كانت تردده في أدبياتها قبل الوصول للحكم، مما دفع أعداء الإسلام السياسي للقول بفشله، أو الحديث عن مرحلة ما بعد الإسلام السياسي، والإدعاء بأن التنظير شيء والواقع شيء آخر، وأن الإسلاميون أنفسهم هم أول من لم يطبق الإسلام ولا يستطيع تطبيقه.

لقد أفشلت بعض التجارب الإسلامية بانقلاب عسكري تواطىء عليه القريب والبعيد كما حدث في الجزائر ومصر، أو بشن حرب عالمية أو إقليمية كما حدث لطالبان أفغانستان والمحاكم الشرعية في الصومال. أو لم يعترف أحد بفوزهم ووصولهم للحكم كما في حالة حماس في فلسطين. أو كان الإصرار العالمي بعدم وصولهم للحكم كما في سوريا واليمن وليبيا ،حتى لو أدى ذلك لتمزيق البلاد وتحويلها لبلاد فاشلة، أو تسلط حكم عسكري غاشم أو طائفي حاقد.
أما التجارب الأخرى، فبعضهم رأى التدرج في تحكيم الشريعة، كون بلادهم بعيدة كل البعد عن الإسلام الصحيح، ولا يمكن إجبار الناس على الإسلام دفعة واحدة، ويستدلون بحديث عائشة في التدرج في تحكيم الخمر، أو بناء الكعبة، أو الاستدلال بالنجاشي المسلم الذي لم يحكم بالإسلام لعجزه. وهذه قضايا اجتهادية يتفق على أصلها الشرعي،وقد يختلف في طبيعة تطبيقها أو سرعته. ورأى بعضهم الآخر أن السياسة تقوم على المصالح، وتأثروا بمقولة تقديم المصلحة على النص، ولذلك كان أداؤهم مشوها بين الدعاية للإسلام، وتطبيقه على المستوى الفردي، وتغييبه عن المستوى الجماعي. ونحن وإن كنا نختلف معهم في اجتهادهم، فبعضهم له تاريخ طويل في الدعوة للإسلام وخدمته، وقدم الكثير من التضحيات في سبيله. ونحن نتكلم عن عصمة الإسلام وأحكامه، لا عصمة أفراده وجماعاته. والمطلوب الاستفادة من التجارب والحوار البناء والنقاش الشرعي المبني على الأصول الصحيحة.

استعراض كتاب ( الدولة المستحيلة : الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي للمستغرب وائل حلاق)
نتساءل عن المعنى الذي يحمله العنوان، وقد يستفز الكثيرين منا أن نقرأ في صفحات الكتاب الأولى قول المؤلف: “مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة”، إذ تبدو هذه العبارة للوهلة الأولى تشكيكا في أهلية التشريع الإسلامي لمواكبة قضايا السياسة وبناء الدولة. ولكنا ما إن نمضي شوطاً في قراءة الكتاب، حتى نكتشف أن المراد بما قيل شيءٌ آخر، وأن الكلام فيه ما يُعرف في لغة الأدب باسم: المدح بما يشبه الذم .
وقد اقتضى الطرح الذي أراد الكاتب تقديمه أن يقف مطولا لإيضاح الأسس التي قامت عليها الدولة الحديثة، والعوامل التي رافقت نشأتها وشكلت هويتها. فقد جرت في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحولات نموذجية أثرت عليها النقلات السريعة في اقتصاداتها وتقنياتها ومجتمعاتها، وبُناها السياسيّة والمعرفية. وبذلك كانت أوروبا تقريباً المعمل الوحيد الذي صُنعت فيه الدولة الحديثة أول ما صنعت، وفيها قامت فكرة سيادة الدولة، التي تعتبر الأمة التي تجسد الدولة هي وحدها صاحبة إرادتها ومصيرها، وأُعطيت السيادة صفات تقترب من صفات الألوهية، وصارت الدولة هي الفاعل الأعلى في التشريع، وأصبحت -من خلال جهازها البيروقراطي المتصل بشؤون التعليم والصحة والبيئة والعمل- قادرة على التدخل في تشكيل الفرد والجماعة وفق معايير تضعها هي، وأدت هذه التغييرات إلى إضعاف الروابط الأسرية، وتدمير النظام الاجتماعيِّ، وإنتاج إنسانٍ أشبه بآلة افتقدت روحانيتها، وتمت برمجتها لتكون عنصرا يخدم استمرارية الدولة، وغابت في حسابات الدولة المعايير الأخلاقية أمام طغيان حسابات المنفعة المادية.
في مقابل ذلك، كان قانون الإسلام الأخلاقي المعروف باسم “الشريعة” حتَّى بداية القرن التاسع عشر، ولمدة 12 قرناً، قد نجح في العالم الإسلامي في تشكيل القوة القانونية والأخلاقية العليا التي تنظم شؤون الدولة والمجتمع، وذلك قبل أن يتم على يد المستعمر الأوروبي تفكيك النظام الاقتصادي الاجتماعي والسياسي الذي كانت تنظمه الشريعة هيكليا، وقد أقر الحكم الإسلامي أن الله هو الشارع الوحيد، وقانون الله هو الشريعة، والشريعة هي الشرعة الأخلاقية، تمثيلا لإرادته الأخلاقية التي هي الشاغل الأول والأخير. وقد شكل مفهوم سيادة الله في الإسلام، مع ما يعنيه من عدم وجود ملك أو دولة يتحكمان في الشريعة، نموذجاً خاصاً من نماذج الفصل بين السلطات، واختلافاً أساسيّاً يميزه. وفي ظل الحكم الإسلامي كان التعليم، مثل الشريعة، مستقلاً بصورة دالة عن الإرادة التنفيذية التي لم يكن لها سيطرة على مضمونه أو تكوينه الديني الأخلاقي، وتضافر عند الفرد حب الله والخوف منه لتحقيق إحساس عميق بالخضوع لقوة أعلى خلقت، وبالتالي تملك كل شيء في الوجود.

على هذا، فإن الاستحالة التي أشار إليها عنوان الكتاب لا تأتي من قصور في مضمون التشريع الإسلامي وأبعاده السياسيّة، وإنما من أنه لا يمكن للحكم الإسلامي أن يقبل بأي سيادة أو إرادة سيادية غير سيادة الله، وأنه ليس لدى المسلمين الساعين لبناء دولة إسلامية تبرير للتضحية من أجل دولة لم تستطع، ولا تستطيع تقدير الالتزام إلا بطريقة وجود منفصلة عن الأخلاق، وبالوضعية والوقائع، وما هو قائم، دون اعتبار لما ينبغي أن يكون.
إذن، إنَّ المدخل الذي يعتمدُ عليه صاحب “الدولة المستحيلة” هو مدخل أخلاقيّ بامتيازٍ، ومقاربته لنموذج الدولة الحديثة الذي يُراد أسلمته بوصفه نموذجًا ممكن الأسلمة، هي مقاربة تقول إنَّ: “النطاق المركزيّ” للشريعة نتاج أخلاقيّ بالأساس، وأنَّ “النطاق المركزيّ” للشرط الحديث هو نطاق يعاني من أزمات بنيويَّة لأنَّه مفتقد للأساس الأخلاقيّ الذي يوفِّر الحياة الخيِّرة للذات الإنسانيِّة.

ومن ثمَّ، يشتغل حلَّاق على ثنائيَّة طريفة هي ثنائيَّة الشكل والمضمون، بحيث يقول: “أعتبرُ المضمون متغيّرًا أو مجموعة من المتغيّرات، والشّكل مكوّنًا من بنى أو خصائص أساسيَّة امتلكتها الدولة في الواقع لمئة عامٍ على الأقلّ ولا يمكن من دونها تصوِّرها كدولةٍ قطّ، كونها أساسيَّة” (حلَّاق، الدولة المستحيلة، ص ٦٠). وبالتالي، يطرح حلَّاق خمس صفاتٍ شكليَّة للدولة الحديثة، يجد أنَّها تعنيها حصرًا بما هي دولة. وهذه الخمسُ صفاتٍ هي: أولًا، الطبيعة التاريخيَّة للدولة؛ ثانيًا، امتلاك السيادة وميتافيزيقا السيادة؛ ثالثًا، القيام بعمليَّة التشريع والقانون والعنف؛ رابعًا، امتلاكها لجهازٍ بيروقراطيّ عقلانيّ؛ خامسًا، هيمنتها الثقافيَّة أو تسييسها للثقافيّ. وتتميَّز صفات حلَّاق الخمس بأنَّها تجمع خلاصة ما أنتجه المفكِّرون والفلاسفة السياسيُّون غربيًّا .

ومن ثمَّ، فالدَّولة الحديثة، بما هي دولة، لها خصائص شكليَّة -ليست “شكليَّة” ههنا بمعنى عَرضِيَّة، إنَّما بمعنى منفصلة عن مضمونها الأيديولوجيّ، وهذه ملاحظة شديدة الأهميَّة- أشبه بخصائصٍ متعالية، وهي بمثابة الشرط لها، وما المحتوى الأيديولوجيّ -سواء أكان ليبراليًّا أو ماركسيًّا أو إسلاميًّا، إلخ- سوى شيءٍ لاحقٍ لتشكّلها كدولة. وإن فقدتْ الدولة الحديثة هذه الخصائص الشكليَّة، تفقدُ ذاتها، وتتحوَّل إلى فوضى، دون سيِّد، ودون آمرٍ متعالٍ، ودون بيروقراطيَّة تحكم نسق العلاقات الإجرائيَّة بداخلها.
وبناءً على هذه الصفات الشكليَّة/ الجوهريَّة للدولة الحديثة، يرى حلَّاق أنَّ هذه الصفات صفات مختلفة جوهريًّا عن نموذج الحكم الذي عايشه المسلمون لمدَّة اثني عشر قرنًا قبل الاستعمار.
لكن، ما هي “الاختلافات البنيويَّة والنوعيَّة بين الدولة الحديثة و”أسلافها”؟ وإذا كان نموذج “الحكم الإسلاميّ” مختلفًا، جذريًّا كما يجادل حلَّاق، عن “الدولة الحديثة”، فما هي طبيعة هذه الاختلافات؟ هل هي طبيعة تاريخيَّة؟ أم هي طبيعة أخلاقيَّة-ميتافيزيقيَّة؟

لقد خصَّص حلَّاق بالفعل جزءًا كبيرًا، أو لنقُل الجزء الأكبر، من الكتاب للردّ على هذا السؤال في كتابه. حيث يرى حلَّاق أنَّ الشريعة -بمعناها الأعمّ والواسع- هي التي كانت تشكِّل نطاقات الاجتماع البشريّ بين المسلمين، وأنَّ السيادة لم تكن للدولة، أو للمشرّع القانونيّ، إنَّما كانت لله، ولله وحده. ذلك أنَّ التراث الإسلاميّ لم يكن يعرف المعنى بمعناها السياديّ الحديث، إنَّما الدولة في واقع هذا التراث ليست سوى منظِّم شكلي لحاجيَّات المسلمين، وكان الأمر موكولًا إلى المجتمع الذي تحكمه الشريعة بقانونها الأخلاقيّ. ومن ثمَّ، فكي تُفعِّل الشريعةٍ في سياقٍ ما، لا بدّ وأن يكون هذا السياقُ أخلاقيًّا بشكلٍ أساس، وإلّا فقدت الشريعة معناها كما يقول حلَّاق. صحيح أنَّ هناك انحرافًا سياسيًّا حصلَ في التراث الإسلاميّ على مستوى نموذج الحكم، لكنَّه عُدّ انحرافًا وليس “ما ينبغى أن يكون” من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ هذا كان على مستوى الحكم السياسيّ ولم يكن على مستوى المجتمع الذي لم تكن الدولة تشكِّل له معنى كبيرًا بالنسبة إلى وضعنا الحالي. وأيضًا، وكما يوصّف حلَّاق، كان الاجتماع البشريّ في التراث الإسلاميّ لا يعتمد على هيمنة الدولة على المجتمع -كما هو حال الدولة الحديثة-، بل كان المجتمعُ مستقلًّا بعلمائه وعلومه ومدارسه ومصارفه عن الدولة. بل إنَّ الشريعة كانت حماية للمقهورين إذا ما وقعَ جورٌ من الدولة على أحدٍ ما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى