دراسات معاصرة

محمد رشيد رضا: الرجل الذي أثر في كل حركات الإصلاح بعده

ولد محمد رشيد رضا في قرية القلمون التي تبعد عن مدينة طرابلس الشام بنحو ثلاثة أميال، ودخل المدرسة الرشيدية في طرابلس ثم تركها بعد سنة ودخل المدرسة الوطنية الإسلامية ، وتتلمذ على الشيخ حسين الجسر مدير المدرسة الذي كان له إلمام واسع بالعلوم العصرية، وفي الوقت نفسه درس “رشيد رضا” الحديث على يد “محمود نشابة” وأجازه أيضًا لرواية الحديث، كما واظب على حضور دروس نفر من علماء طرابلس مثل: الشيخ عبد الغني الرافعي، ومحمد القاوجي، ومحمد الحسيني، وغيرهم

وكان في أول نشأته يميل إلى التصوف كما كان شديد الإعجاب بكتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، يقول عن نفسه: ” إنني قد سلكت الطريقة النقشبنديــة، وعرفت الخفي والأخفى من لطائفها وأسرارها، وخضت بحر التصوف ورأيتُ ما استقر في باطنه من الدرر، وما تقذف أمواجه من الجيف، ثم انتهيت إلى مذهــــب السلــــف الصالحين، وعلمت أن كل ما خالفه فهو ضلال مبين”.

 ثم ظفر- على حد قوله- بنسخة من جريدة العروة الوثقى في أوراق والده فأعجبته، وكتب إلى جمال الدين الأفغاني الذي كان يقيم في الأستانة لكنه لم يجتمع به، ثم اجتمع  بالشيخ محمد عبده أثناء زيارته لطرابلس الشام، ثم رحل إلى مصر في رجب  سنة 1315هـ ، الموافق سنة1898 م ، وفي العام نفسه أصدر مجلة المنار التي استمرت حتى سنة 1354 هـ ، الموافق عام 1935م .
وكان عضواً في الحكومة السورية الأولى التي أقامها فيصل بن الحسين بعد الحرب العالمية الأولى ، فلما استولى الفرنسيون على سورية وسقطت هذه الحكومة عاد إلى مصر، وأعاد إصدار مجلة المنار بعد توقفها .
مات أستاذه محمد عبده سنة 1323 هـ ، الموافق سنة1905 م ، وهذا يعني أنه عاش في صحبته حوالي سبع سنين، واستمرت المنار ثلاثين عاماً بعد موت محمد عبده، واستمر عطاء رشيد رضا الذي يكاد لا ينضب، وخلال هذه المرحلة
صلح حاله وأقبل على كتب السنة ينهل منها، ويعترف في مقدمة المنار بأنه خالف منهج محمد عبده بعد وفاته :
(هذا وإنني لما استقللت بالعمل بعد وفاته خالفت منهجه رحمه الله تعالى بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيراً لها أو في حكمها، وفي تحقيق بعض المفردات أو الجمل اللغوية والمسائل الخلافية بين العلماء، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة، وفي بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها، بما يثبتهم بهداية دينهم في هذا العصر، أو يقوي حجتهم على خصومهم من الكفار والمبتدعة ) .

“تُعَدُّ مجلة المنار التي أصدرها الشيخ بعد شهر واحد من مقدِمه إلى مصر أكبر مجلة إسلامية في العالم الإسلامي بأسره، وأكثرها تداولاً وأعظمها تأثيرًا وأبعدها صيتًا.

كانت المنار منارًا للإحياء والتجديد والتربية والتعليم، وقد تصدت لقضايا الأمة بعامة، وعُنيت بإصلاح العقيدة ومحاربة البدع والخرافة، والاهتمام بشأن العلم المادي والتجريبي، والدعوة إلى إنهاض الأمة في جميع المجالات، ولقد كانت بصمات الشيخ “رشيد رضا” على المجلة واضحة، فهو أكبر محرريها، وأكثر من كتب فيها، بل جُلّ مقالاتها تُنسَب إليه شخصيًّا أو إلى المدرسة التي انتمى إليها في المرحلة الوسيطة من حياته”.
كانت مجلة المنار سجلاً تاريخياً لأحداث العالم الإسلامي طيلة أكثر من ثلث قرن، وكان رشيد رضا هو المنار بتحليلاتها السياسية، ودراساتها الشرعية ولهذا فلقد كان يواصل الليل مع النهار من أجل أن تخرج المنار في مطلع كل شهر.. والعجيب أنها كانت تخرج كثيفة المحتوى، كثيرة الفائدة، وكان بعيد النظر في تعليقاته ومواقفه، غزير المادة، كما كان أسلوبه قوياً متماسكاً .
دعوة الشيخ رشيد :
نعيد للأذهان أننا نتحدث عن دعوة الشيخ رشيد رضا في المرحلة التي تلت وفاة شيخه محمد عبده (1905 – 1935) ، ونلخص أهم ما دعا إليه في النقاط التالية :
1- كان ملتزماً بمنهج أهل السنة والجماعة، وكان يحرص على أخذ أدلته من الكتاب والسنة، ويهتم بتخريج الأحاديث، ومعرفة الصحيح من الضعيف أو الموضوع، وانتهج مذهب السلف في الأسماء والصفات .
2-  من أهم ما دعا إليه نبذ التقليد، والتحذير من البدع والخرافات، والتنديد بمناهج الصوفيين وبيان ما وقعوا فيه من انحرافات وضلالات. وموقف رجال عصره من البدع والتقليد يختلف عن موقف رجال وعلماء عصرنا. لقد عاصر رحمه الله هيمنة أصحاب البدع والخرافات على شؤون العالم الإسلامي ومقدراته، فالسلطان عبد الحميد كان صوفياً نقشبندياً، وبقربه قبع أبوالهدى الصيادي يأمر وينهى مدة لا تقل عن ثلاثين عاماً وكان يوغر صدر السلطان عبد الحميد ضد كل جديد ومجدد.. وكان اسم وظيفته الرسمية مشيخة المشايخ أو شيخ مشايخ الطرق الصوفية ونقيب الأشراف .وفي مصر خاض السيد رشيد معركة حامية الوطيس ضد الخرافيين والمبتدعين.. وردوا من جهتهم له الصاع صاعين، وحاولوا تشويه سمعته ،
وبالغوا في الإساءة إليه ، ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا : كان رشيد رضا أول داعية في العصر الحديث يتصدى للمبتدعين والخرافيين ، وكان ينطلق في مواجهتهم من التزامه بمنهج أهل السنة والجماعة .
3-  كان بارعاً في ربطه بين التصورات والمفاهيم الإسلامية، وبين واقع العصر وذلك لأنه كان من العلماء المعدودين في عصره، وكان باعه طويلاً في العقائد والتفسير والحديث والفقه والأصول وعلوم اللغة العربية، والعلوم الاجتماعية كما كان إلمامه بمشكلات العصر جيداً وذلك بسبب أسفاره ومخالطته لعدد من علماء الغرب وفلاسفتههم، وكان يعرف أفكارهم وطروحاتهم، وله ردود جيدة عليهم في كتابه ( الوحي المحمدي ) وفي مجلة المنار .
4-  كان داعية من دعاة الإصلاح، لقد هاجم الترف والإسراف، وحذر من الجهل والتخلف والخوف من الظالمين، ونادى بالشورى وندد بالاستبداد والمستبدين، ودعا علماء الأمة إلى القيام بواجبهم في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

5- في عام 1328هـ، قام برحلته الثانية إلى “القسطنطينية”، وكان هدفه إنشاء معهد ديني علمي في العاصمة للتربية الإسلامية الصحيحة الكاملة، والجمع بين التعليم الإسلامي بمواده الشرعية والتعليم الحديث بفروعه الرياضية والطبيعية والصحية والاقتصادية، وذكر جهوده التي بذلها لإزالة سوء التفاهم بين العرب والأتراك.

حاول إنشاء مدرسة الدعوة والإرشاد بهدف الإصلاح الديني والاجتماعي في “الآستانة”، غير أن المحاولة فشلت فعاد إلى “القاهرة”، وأنشأ المدرسة فيها وتخرجت فيها أول دفعة (1912)، إلا أنه اضطر لإغلاقها مع بدايات الحرب العالمية الأولى.

أنشأ في مصر مع بعض العثمانيين «جمعية الشورى العثمانية»، وتولى رئاستها، وأسس لها فروعًا في أقطار مختلفة، وكانت تطبع منشوراتها باللغتين العربية والتركية، وأصدرت الجمعية جريدة تحمل اسمها (1907
مآخذنا عليه :
1-  ذكر في كتابه ( تاريخ الإمام ) العجب العجاب عن جمال الدين الأفغاني وعن محمد عبده .
–  ذكر انتسابهما للمحفل الماسوني ، وذكر في الجزء الثاني مفاوضات محمد عبده مع القسيس الإنجليزي إسحاق تيلور، وفي الجزء الأول ذكر اشتراك اليهود في هذه المفاوضات التي كان هدفها توحيد الأديان، والتقريب بين الإسلام والنصرانية! !
–  وذكر حوار محمد عبده مع عباس ميرزا أحد زعماء البهائيين ونبهه – أي رشيد رضا – إلى انحرافات البهائيين فأجاب تلميذه لم أفهم من عباس أفندي شيئاً من هذا ! !
–  وكان ملتصقاً بمحمد عبده ويعرف صلته بحزب الأمة واللورد كرومر، والجاسوس الإنجليزي الخطير ( ولفرد بلنت )، ويعرف أيضاً تردد شيخه على صالون الأميرة نازلي داعية التبرج والسفور.. كان رشيد رضا يعرف كثيراً عن انحرافات محمد عبده ومع ذلك قال في ثنائه عليه 🙁 وإنني وايم الحق لم أطلع له على عمل إلا الحقيق بلقب المثل الأعلى من ورثة الأنبياء..، وقال أيضاً: إن هذا الرجل أكمل من عرفت من البشر ديناً وأدباً ونفساً وعقلاً وخلقاً وعملاً وصدقاً وإخلاصاً، وإن من مناقبه ما ليس له فيه ند ولا ضريب، وإنه لهو السري الأحوذي العبقري ).
ولا ندري هل هذا رأي رشيد رضا الحقيقي بشيخه رغم أخطائه الفادحة التي تتعارض مع المنهج الذي كان يتبناه ويدافع عنه ويشن حملات عنيفة ضد مخالفيه من المبتدعين المقلدين… أم أن المجاملة حالت بينه وبين الاعتراف بالحق ؟ !
2-  بقيت بصمات محمد عبده ظاهرة فيما كان يكتبه رشيد رضا بعد وفاة الأول، ومن الأمثلة على ذلك تأويله لمعجزة انشقاق القمر رغم تخريج البخاري ومسلم لها، وتضعيف كثير من الأحاديث التي لا تتفق مع آراء أصحاب المدرسة
الإصلاحية كما أنه صحح بعض الأحاديث الضعيفة التي تتفق مع أفكاره التي كان ينادي بها. لكنه مع ذلك لم يتخلى عن منهج أهل السنة وكما يقولون: لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة .
3-  لم يكن موقف رشيد رضا من الدولة العثمانية سليماً، ومن آثار هذا الموقف المؤسف قبوله الاشتراك في أول حكومة سورية بعد الحرب العالمية الأولى، وأهداف هذه الحكومة لم تكن خافية على أمثال رشيد رضا، بل وكثير من رجالات هذه الحكومة معروفة انتماءاتهم العالمية المشبوهة .ولو أن رشيد رضا وقف عند حد نقد سياسة السلطان عبد الحميد وإطلاقه
لأيدي الخرافيين والمستبدين، أو أنه وقف عند حد نقد رجالات الاتحاد والترقي لما وجدنا في هذا أو ذاك غلواً منه، ولكن موقفه تجاوز هذا الحد ولم يكن صائباً في موقفه، وكان المنتظر منه غير ذلك لطول باعه في معرفة أحوال العصر، ولا ندري إلى متى يستمر جهل كثير من العلماء بالسياسة ؟ وإن كان موقف رشيد رضا هنا ليس ناتجاً عن الجهل .

يبقى الشيخ رشيد رضا رغم أخطائه عالمًا كبيراً من كبار علماء أهل السنة، ومن يتحدث عن التجديد في العصر الحديث لا بد أن يذكر مجلة المنار وصاحبها إذا كان جاداً ومنصفاً في بحثه. ولقد تأثر به علماء كبار مشهود لهم بالفضل والخير والعدل. نذكر منهم الآتية أسماؤهم .
1-  أسندت رئاسة تحرير مجلة المنار بعد وفاة رشيد رضا إلى العلامة السلفي الشيخ محمد بهجت البيطار أحد كبار علماء بلاد الشام، وذلك بسبب الروابط القوية التي كانت تربطه بمؤسسها، ولأنه خير من يخلفه في هذه المهمة، وقد أشاد  الشيخ بهجت برشيد رضا ومنهجه في تقريظ له لكتاب الوحي المحمدي وفيما كتبه في المنار .
2-  قال العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: ( السيد محمد رشيد رضا، رحمه الله له فضل كبير على العالم الإسلامي، بصورة عامة، وعلى السلفيين منهم بصورة خاصة، ويعود ذلك إلى كونه من الدعاة النادرين الذين نشروا
المنهج السلفي في سائر أنحاء العالم بوساطة مجلته المنار، .. ويقول أيضاً: فإذا كان من الحق أن يعترف أهل الفضل بالفضل، لذوي الفضل، فأجد نفسي بهذه المناسبة الطيبة مسجلاً هذه الكلمة، ليطلع عليها من بلغته، فإنني بفضل الله عز وجل، بما أنا فيه من الاتجاه إلى السلفية أولاً وإلى تمييز الأحاديث الضعيفة والصحيحة ثانياً يعود الفضل الأول في ذلك إلى السيد رضا رحمه الله عن طريق أعداد مجلته المنار التي وقفت عليها في أول اشتغالي بطلب العلم ).
3-  أسندت رئاسة تحرير المنار بعد توقف دام ثلاث سنوات إلى الشيخ حسن البنا رحمه الله، ويقول الأستاذ محمود عبد الحليم: ( لم يكن الشيخ حسن البنا غريباً على أسرة الشيخ رشيد فقد كان على صلة بالشيخ منذ كان طالباً بدار العلوم وكانت دار مجلة المنار ملتقاه بأكثر من التقى بهم من رجالات الحركة الإسلامية في ذلك العهد، واتخذت أكثر القرارات في مواجهة المؤامرات ضد الإسلام في هذه الدار وظل الأستاذ حسن البنا على اتصال بالشيخ رشيد بعد قيام دعوة الإخوان،
وكان يستشيره في كثير من الأمور ).
وكتب الأستاذ البنا يقول: ( وقد عز على الإخوان أن يخبو ضوء هذا السراج المشرق بالعلم والمعرفة من اقتباس الإسلام الحنيف، فاعتزموا أن يتعاونوا مع ورثة السيد رحمه الله على إصدار المنار من جديد، وقد تم الاتفاق على ذلك وصدر
العدد الخامس من السنة الخامسة والثلاثين في غرة جمادى الآخر سنة 1358 الموافق 18 يوليو سنة 1939، أي قبل نشوب الحرب العالمية الثانية بعدة أشهر، وتلاه خمسة أعداد أخرى تمت بها السنة الخامسة والثلاثون من المجلة ..

ومما كتبه شيخ الجامع الأزهر محمد مصطفى المراغى في افتتاحية العدد الخامس : ( والآن وقد علمت أن الأستاذ حسن البنا يريد أن يبعث المنار ويعيد سيرته الأولى فسرني هذا فإن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي
يعيش فيه، ويعرف مواع الداء في جسم الأمة الإسلامية ويفقه أسرار الإسلام، وقد اتصل بالناس. اتصالاً وثيقاً على اختلاف طبقاتهم وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي على الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة، وبعد فإني أرجو الأستاذ البنا أن يسير على سيرة السيد رشيد رضا، وأن يلازمه التوفيق كما صاحب السيد رشيد رضا، والله هو المعين ، عليه نتوكل وبه نستعين ) [6[.
4-  تعتبر جمعية العلماء في الجزائر ، امتداداً لدعوة رشيد رضا في مصر وبلاد الشام ، فرئيس الجمعية ونائبها – في عهد ابن باديس – البشير الإبراهيمي ، قال: إن جمعية العلماء مدينة بالكثير لرشيد رضا ومجلته المنار، وكان قد التقى به في دمشق خلال إقامته فيها (1916-1920) … ويستعيد الإبراهيمي ذكرياته مع ابن باديس فيقول : ( ولا أنسى مجلساً كنا فيه على ربوة من جبل قاسيون في زيارة من زياراته لي، وكنا في حالة حزن لموت الشيخ (رشيد رضا) قبل أسبوع من ذلك اليوم، فذكرنا تفسير المنار، وأسفنا لانقطاعه بموت صاحبه فقلت له: ليس لإكماله إلا أنت، فقال لي: ليس لإكماله إلا أنت، فقلت له: حتى يكون لي علم رشيد، وسعة رشيد، ومكتبة رشيد، ومكاتب القاهرة المفتوحة في وجه رشيد. فقال لي واثقاً مؤكداً: إننا لو تعاونا وتفرغنا للعمل لأخرجنا للأمة تفسيراً يغطى على التفاسير من غير احتياج إلى ما ذكرت ).
ومن خلال رسائله الشخصية التي كان يرسلها لصديقه شكيب أرسلان ، والتي جمعها الأخير في كتاب أسماه ( السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة ) نعلم متانة الروابط التي تربط رشيد رضا مع علماء وقادة المغرب العربي كله .
5-   كتب مقالات عديدة في الدفاع عن الشيخ “محمد بن عبد الوهاب”، منها مجموعة مقالات أسماها “الوهابيون والحجاز” شرح فيها دعوة الشيخ، وجَلَّى مبادئها وأهدافها، كما كتب كتابًا رَدَّ فيه على خصوم الدعوة من الشيعة والرافضة، أسماه (السُنة والشيعة) أو (الوهابية والرافضة)، وعندما انتشرت الأراجيف ضدهم بعد افتتاح الطائف وزع ألوفاً من رسالة (الهدية السنية والتحفة النجدية) ونشر مقالات في الدفاع عنهم والرد على خصومهم، وقد قال له شيخ الأزهر أمام ملأ من العلماء: “جزاك الله خيراً بما أزلت عن الناس من الغمة في أمر.
واستمرت صلات رشيد رضا مع علماء نجد وزعمائها إلى أن لقى وجه ربه ولقد كانت موتته بينهم.. وكانت له مثل هذه الصلات مع السلفيين في مختلف بلدان العالم الإسلامي .
6-  وعندما أصدر علي عبد الرازق كتابه ( الإسلام وأصول الحكم ) الذي تحمس له العلمانيون أشد التحمس، كان الكاتب يرد في بعض ما كتبه على رشيد رضا في كتابه ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) الذي نشره في المنار قبل إلغاء
أتاتورك للخلافة، وبيت القصيد أن العلمانيين كان يمثلهم علي عبد الرازق والإسلاميين كان يمثلهم رشيد رضا .

وقد تصدى لكتاب “علي عبد الرازق” (الإسلام وأصول الحكم) وأصدر كتابه (الخلافة أو الإمامة العظمى) يدعو فيه بشدة إلى إعادة الخلافة الإسلامية، وعقد مؤتمرًا عام 1343 هـ للدعوة إلى هذا الأمر
7-  بعد وفاته أقيمت له حفلات تأبين  في كل من مصر، وتونس، وبغداد، ودمشق، وتبارى عدد من علماء الأمة وزعمائها في هذه البلدان في إلقاء الكلمات التي عددوا فيها مآثر الفقيد .. وفي هذا كله دليل على علو مكانته ، وتقدير  الناس لدوره القيادي الذي استمر حوالي أربعين سنة .

مجلة المنار

إنشاء المجلة و انتشارها 
 و لما صحّ العزم من الشيخ محمد رشيد رضا قام بإنشاء المجلة، و أطلق عليها اسم : ” المنار “، و طبعها في مطبعة التوفيق القبطية، فصدر أول أعدادها في تاريخ 22 من شوال عام 1315 هـ، الموافق 15 مارس من عام 1898 م. يتألف العدد منها من ثمان صفحات كبيرة، تتوسّطها كلمة المنار بخطّ كبير .
وقوبلت المجلة حين إصدارها بالترحاب والإهتمام من شتى طبقات المجتمع المثقفة ؛ إذ كان أكثر المشتركين فيها من الطبقة المتعلمة و على الأخصّ من فئة المحامين و القضاة الأهليين .
وكانت في بداية صدورها أسبوعية، لكنها اضطرّت لظروف معينة إلى أن تكون نصف شهرية، ثم إلى شهرية شبه منتظمة. و مع ذلك كان انتشارها في إطار ضيق فلم يزِد المشتركون فيها عن الثلاثمائة، إذ كان من أسباب ضيق انتشارها منع السلطات العثمانية المجلة من الدخول إلى و لاياتها، بسبب مواقفها المعارضة للسياسة العثمانية آنذاك.
ولكن الناس في تلك الأقطار بدأوا في التسامع بها، و ازداد الطلب عليها لا سيما على ما فاتهم من أعدادها السابقة، و في عام 1909 أُعيد طباعة مجموعة أعداد السنة الأولى، و بيعت بأربعة أمثال قيمتها. فطار ذكرها و انتشر في جميع أنحاء العالم الإسلامي حتى وصلت إلى الهند و سومطرة. فكان لانتشار هذه المجلة في العالم الإسلامي آثار إيجابية في نشر الأفكار الإصلاحية التي طرحها الشيخ محمد رشيد رضا بين ظهراني المسلمين، إذ يقول المستشرق ” هاملتون جب ” في كتابه ” وجهة الإسلام ” : ” و لم يشرق ( منار ) الإسلام على المصريين وحدهم، و لكنه أشرق على العرب في بلادهم و خارجها و على المسلمين في أرخبيل الملايو الذين درسوا في الجامعة الأزهرية، و على الأندونيسي المنعزل الذي ظل محافظاً على علاقاته بقلب العالم الإسلامي بعد عودته لبلاده النائية على حدود دار الإسلام “.
و استمرّت المجلة على هذا الحال من الإنتشار و الذيوع في العالم الإسلامي رغم ما تعرّضت إليه من مصاعب جمة ؛ فقد كانت المجلة تسدّ ثغوراً كثيرة من ثغور العمل الإسلامي، و يقوم الشيخ محمد رشيد رضا بتحرير أغلب موادّ المجلة بنفسه، و يقوم بتصحيحها و فهرسة مجلداتها مما يسبب له الكثير من الإرهاق و العنت.
ومن جملة العقبات التي جابهها إلى جانب ذلك العقبة المادية ؛ فكان يعاني من مطل المشتركين في تسديد قيمة اشتراكاتهم، لأن المجلة لم تكن تتلقى أي مساعدات مالية من الخارج بسبب استقلاليتها الفكرية، و عدم انضوائها تحت راية حزب أو جهة حكومية أو أحد الأعيان القادرين. و كان كثيراً ما يطرح قضيّة مطل المشتركين في المجلّة تارةً بالتلميح، و أخرى بالتصريح، مما يدل على الحرج البالغ الذي كانت تتعرّض إليه المجلة بسبب هذه المشكلة، و تداعياتها على عمليّة نشر المجلة .

الاتجاه السلفي في مجلة المنار 
كما رأينا في عرضنا السريع لسيرة الشيخ محمد رشيد رضا، أنه قد مرّ بعدة أطوار في حياته الفكرية، فكان في بداياته صوفياً، ثم متأثّراً بمدرسة الأستاذ محمد عبده العقلانية، ثم انتهى أخيراً إلى مرحلة اقترب فيها كثيراً من المدرسة السلفية، و هذه المرحلة الأخيرة – و هي الأهم – برزت في مادّة المجلة بشكل واضح، و نستطيع تحديد أهم ملامح هذا الاتجاه وفق ما يلي :
أولا : شنّت حرباً شعواءً على الشركيات و البدع المنتشرة بين المسلمين في مصر، و غيرها من دول العالم الإسلامي، كبدع البناء على القبور و تعظيم الأضرحة، و الاستغاثة بالمخلوقين فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، و حثت المسلمين على وجوب العودة إلى الكتاب و السنة و آثار السلف الصالح في فهم قضايا التوحيد و الشريعة.

ثانيا : دفاعها عن أعلام الدعوة السلفية، و ركّزت على عَـلَميـْن شامخين من أعلام هذه المدرسة هما : شيخ الإسلام ابن تيمية، و الإمام المجدّد محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله ؛ فقد كان يهتبل كل فرصة مواتية لبيان مكانة هذين العلَـمَيـن و مآثرهما و دورهما في الإصلاح و التجديد، و الدفاع عنهما و دحض الشبهات و المفتريات التي عادةً ما يثيرها أعداؤهما. و كذا نشرت المجلة العديد من فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية، و فصولاً من كتب ابن القيم رحمهما الله تعالى، للتنبيه على قيمة هذه الكنوز الـعـلمية.

ثالثا : حاربت المجلة التعصّب المذهبي و دعت إلى فتح باب الاجتهاد، و إلى التمسّك بنصوص الكتاب و السنة الصحيحة بدلاً من التعصّب لمقالات المشايخ و الأئمة و الجمود عليها، يقول محمد رشيد رضا رحمه الله : “ولا نعرف في ترك الإجتهاد منفعة ما. و أما مضارّه فكثيرة و كلها ترجع إلى إهمال العقل، و قطع طريق العلم، و الحرمان من استقلال الفكر، و قد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد فصاروا إلى ما نرى” ا هـ. واستقطبت المجلة أقلاماً عُرفت بسلفيتها أمثال العلامة محمود شكري الألوسي، و العلامة جمال الدين القاسمي رحمهما الله، و كانت له مراسلات مع علامة القصيم الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله.

ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله قد وقعت بيده نسخة من هذه المجلة تحتوي بحثاً علمياً كتبه الشيخ محمد رشيد رضا عن كتاب ” إحياء علوم الدين ” لأبي حامد الغزالي، فأعجبه هذا البحث لما انطوى عليه من نقد علمي، و موازنة بين حسناته و سيئاته، فكان هذا المقال دافعاً له للانصراف إلى طلب علم الحديث الذي كان فيما بعد فارسه الذي لا يُشقّ له غبار في هذا العصر.

معارك المنار الفكرية
لم يكن طريق الشيخ محمد رشيد رضا و مجلته نحو الصدارة ممهّـداً بالورود، خالياً من الأشواك ؛ إذ كانت مجلته غرضاً للكثير من السهام بسبب مواقفها التي تبنّتها إزاء العديد من القضايا الشرعية و الفكرية، فتعرّض الشيخ رشيد إلى أعداءٍ كُـثُر نازلهم على جبهات مختلفة، يقول الشيخ في هذا الصدد : “أُجـاهدُ البدع و المبتدعين، و الدجالين و الخرافيين و المعممين الجامدين، و الملاحدة و الجاحدين، و المستبدين الظالمين، و أفنّد شبهات الماديين، وضلالات دعاة النصرانية المغاوين من غير اعتماد على ملك أو حكومة، أو مظاهرة حزب أو جمعية، أو مساعدة غني بماله، أو كاتب بقلمه”.
فتعرّضت مجلة المنار إلى هجوم شديد على صفحات مجلة الأزهر في مقالات كتبها الشيخ “يوسف الدجوي” حول قضايا التصوّف و التوسّل و الشفاعة و الاجتهاد، فردّ الشيخ محمد رشيد رضا عليه بمقالات في المنار و في بعض الصحف المصرية اليومية، و جمعها أخيراً في كتاب واحد باسم “المنار والأزهر”.
وتعرّض أيضاً لهجوم من محسن العاملي و أحمد عارف الزين و عبدالحسين شرف الدين، و ردّ عليهم بسلسلة مقالات في مجلة المنار، و فنّد شبهاتهم و نقضها بأسلوب علمي رصين. وكان للأقباط – بطبيعة الحال – نصيبٌ من الهجوم على الشيخ و مجلته، فقد هاجمته جريدة “مصر” القبطية، و اتهمته بالهجوم على المسيحية و أهلها، و ألبت عليه الإنجليز و الحكومة المصرية.
فتعرّض الشيخ إلى مضايقات من الإنجليز الذين ضغطوا عليه بعدم نشر شيءٍ يمسّ السياسة على خلاف باقي الصحف، بحجة أن المنار مجلة أدبية. و تعرض كذلك إلى مضايقاتهم عند مغادرته إلى الشام، فحاولوا منعه من العودة إلى مصر .

موقف المنار من التغريب و الغزو الفكري 
لم يكن الشيخ محمد رشيد رضا متقوقعاً في برجه العاجي، أو منكفئاً حول ذاته، بل كان يتفاعل مع قضايا مجتمعه و ما يعانيه من أدواءٍ فكرية، و ما يتعرّض إليه من هجمات مسعورة يشنّها الأعداء، فوقف من خلال مجلته المنار سدّاً منيعاً في وجه مدّ الغزو الفكري الذي بدأ ينفث سمومه في جسد الأمة الإسلامية عموما، و مصر خصوصا، و تناول بالفضح أساليب التغريب و الغزو الفكري المتـتـرّسة بحِـراب الإستعمار الإنجليزي في مصر، و كشف النقاب عن وجهها الشائه القبيح في كل أعداد مجلة المنار إما تصريحاً أو تلميحاً.
و في هذا الصدد يلخّص الدكتور ” سامي الكومي ” موقفه إزاء الإستعمار وآثاره السلبية في العالم الإسلامي قائلاً : ” إعلان حرب لا هوادة فيها على ما اقترن بدخول الأوروبيين إلى مصر و غيرها من البلاد الإسلامية من الانحلال الخلقي و العادات الضارة، ففي مقال بعنوان “الجيوش الغربية المعنوية في الفتوحات الشرقية”، يقول : “إن الغرض من الفتوح و الإستعمار تكثير المال و تنمية الثروة، و إن الدول الأوروبية توفّر على نفسها القتال حتى لا تريق دماء أبنائها و تسلّط الأمم الشرقية جيوشاً معنوية أقوى من الجيوش المادية، فأن الأوروبيين ساقوا عليه – الشرق – خمسة فيالق هي الخمر و الميسر و الربا و البغاء و التجارة فنسفوا بذلك ثروته، و قتلوا غيرته و أضعفوا همته و أفسدوا ما كان له من بقايا أدب و دين “. لهذا لم يكن مفاجئاً أن يقف الشيخ محمد رشيد رضا موقفاً مشرّفاً عندما أطلّت فتنة اللغة العامية برأسها ورفعت عقيرتها النشاز في محاولة خبيثة لطمس الهوية العربية الإسلامية للمجتمع المصري عن طريق محاربة اللغة العربية لقطع أوثق رباط يربط المسلمين في مصر بالقرآن الكريم الذي هو الركن الركين للهوية الإسلامية.

فتولّت بعض المجلات ذات النزعة التغريبية كِـبْـر هذه الخطة الهدّامة كمجلة ” المقتطف “، و ” المقطّم “، و مجلة ” الأزهر ” التي أصدرها الإنجليزي ” ويليام كوكس ” ( و هي غير مجلة الأزهر الصادرة عن جامعة الأزهر )، و أخذت على عاتقها نشر هذه الفكرة تحت سمع و بصر الإنجليز. فوقعت في يد الشيخ رشيد كراسة مطبوعة تدعو إلى استخدام اللغة العامية بدل الفصحى، و كتابتها بحروف لاتينية، فتصدّى لها في مقالين طويلين بعنوان ” صدمة جديدة على اللغة العربية “، و فنّد آراء مؤلف الكراسة بحجج قوية واضحة، أبان فيها عوار هذه الدعوة الضالة، و ما يراد منها من أهداف خبيثة .
نهاية المجلة
توُفّي الشيخ محمد رشيد رضا في 23 من جمادى الأولى لعام 1354 هـ، الموافق 1935 م، بعد أن استكملت المنار مجلدها الرابع و الثلاثين و شرعت في الخامس و الثلاثين، فكان لوفاة الشيخ و انقطاع المجلة وقعاً محزناً في العالم الإسلامي، فطالب الكثيرون من العلماء و الأدباء و المؤرخين بإعادة إصدارها مرة أخرى لسدّ الفراغ الكبير الذي أحدثه توقفها، فأصدر أخوه ” محي الدين رضا ” عددين فقط، و لكنه لم يستطع الإستمرار. توقّفت بعد هذا المجلة لمدة عامين، ثم تولّى الأستاذ حسن البنا زمام المجلة، ، فصدرت ستة أعداد منها، ثم توقّفت نهائياً في شعبان 1359 هـ، الموافق سبتمبر عام 1940 م، لينطفيء آخر إشعاع انبثق من هذا ” المنار ” الشامخ الباذخ، فرحم الله الشيخ و أجزل له المثوبة عنا و عن أمة الإسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى