دولة الخلافة الراشدة (4)
إن القراءة المنصفة للتاريخ البشري ، بعيداً عن تأثير الاستشراق ولوثات الحداثة وأهواء التزوير لا يمكن بحال أن نعد الفتح الإسلامي، مثل ما نعرف من فتوح الأمم المختلفة في الأعصار المتباينة، لأن للفتح الإسلامي طبيعة خاصة به تجعله يمتاز عن سائر الفتوح ، ذلك أن كافة الفتوح إنما كانت الغاية منها ضم البلاد المفتوحة إلى أملاك الفاتحين، والانتفاع بخيراتها ومواردها، لا نعرف فتحاً يخرج عن هذا المبدأ إلا الفتح الإسلامي.
فلم تكن الغاية ضم البلدان إلى الوطن الإسلامي، وامتصاص دماء أهلها وأموالهم، واستغلال مواردها الطبيعية وخيراتها، بدليل أن كثيرا من عواصم البلدان المفتوحة وحواضرها كانت أكثر حضارة وعمراناً من عاصمة الدولة الإسلامية نفسها ، ولكن غايته نشر الدين الإسلامي والسعي لإعلاء كلمة الله، وإيصال هدي القرآن في الأرض كلها؛ فكانوا كلما وطئوا أرضاً عرضوا عليهم الإسلام، فإن قبلوا به واتبعوه ونطقوا بكلمة الشهادة انصرفوا عنهم وعدوهم إخوانهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا فرق بين أمير المؤمنين وآخر مسلم في أقصى الأرض؛ كلهم سواء في الحقوق الواجبات، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
وإن لم يقبلوا بالإسلام عرضوا عليهم الجزية ، وهي أقل بكثير مما كانوا يدفعونه إلى ملوكهم وأمرائهم من ضرائب وأتاوات وسموهم ذميين لهم ذمة المسلمين، وأعطوهم الحرية في أمور دينهم ودنياهم، وتعهدوا لهم بالأمن الداخلي والخارجي. وإن أبوا أن يعطوا الجزية حاربوهم.
ثم إنهم لم يكرهوا أحداً على الإسلام لأن في الإسلام من تعاليم ومبادئ وأخلاق ما يغني في الدعوة إليه عن السيف. وما “دين محمد دين السيف” كما يهتف العامة والجاهلون، ولكنه دين العقل والمنطق والعلم، والمسلمون عامة دعاة مرشدون، ولكنهم دعاة أقوياء يحملون القرآن بيد، والسيف بالأخرى، فمن قبل فما كانوا ليحاربوه، ومن أبى وحاربهم أدبوه حتى يرجع إلى الحق، ويجنح إلى السلم.
ثم إن معاملة المسلمين للذميين، ووفاءهم بعهودهم، وصدق وعودهم وكرمهم وتسامحهم الذي شهد به الأصدقاء والأعداء؛ وصار أشهر من أن يذكر ما يؤكد طبيعة (الفتح الإسلامي) ويرفعه عن أن يقاس به فتح آخر.
يعد كتاب “دراسة التاريخ” للمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي من أعظم ما كُتب في بابه على الإطلاق، وقد قضى في تأليفه نحو أربعين سنة (1921 – 1961م)، وصدر أول الأمر في اثني عشر مجلدا، ثم اختصرت تعميما للفائدة، ونُشر المختصر مترجما إلى العربية في أربعة مجلدات. وقد ابتكر توينبي في هذه الدراسة -ضمن كثير من نظرياته ونظراته العميقة- قاعدة تاريخية تفيد بأن الغزاة يستطيعون تأسيس إمبراطوريات كبرى ويظفرون برضا ومحبة الشعوب المحكومة إن هم كانوا من ذات ثقافتهم أو اعتنقوها دون شوائب دخيلة، فأما إن اعتنقوا ثقافة أخرى أو كانوا ممثلين لحضارة أخرى فإنهم يصيرون مكروهين منبوذين من الشعوب المحكومة مهما طال زمن سيطرتهم ولا بد سيأتي يوم يتدمر سلطانهم على يد هذه الشعوب، يقول: “وفي وسعنا في الواقع أن نقدم على صياغة شيء يماثل قانونا اجتماعيا عاما مداره: إن الغزاة البرابرة الذين يتبدون أحرارا من شائبة أية ثقافة دخيلة، في وسعهم كفالة مصائرهم. ويختلف الأمر بالنسبة لهؤلاء الذين اصطبغوا خلال مرحلة هجراتهم بصبغة أجنبية أو بنزعة ضالة، فهؤلاء يجب أن يحيدوا عن طريقهم ليطهروا أنفسهم من هذه الصبغة أو تلك النزعة، حتى يقيض لهم اجتناب المصير الآخر: أي الطرد والإبادة “.
إلا أنه بعدما ضرب الأمثلة على صدق نظريته، سارع ليرصد هذا الاستثناء، فقال: “وثمة استثناء من قاعدتنا يمثله العرب المسلمون الأوائل. إذ كان العرب جماعة من العشائر من خارج المجتمع الهليني، أنجزوا مرتبة سامية من النجاح إبان مرحلة هجراتهم التي صاحبت تحلل ذلك المجتمع. وتمَّ هذا النجاح رغما عن حقيقة قوامها أن العرب قد تشبثوا بمنحاهم الديني الأصيل عِوَضًا عن اعتناقهم المذهب المسيحي المينوفيستي (اليعقوبي ) الذي كان يعتنقه رعاياهم في الأقاليم التي انتزعوها من الإمبراطورية الرومانية. بيد أن الدور التاريخي للعرب المسلمين الأوائل، يعتبر دورا استثنائيا تماما.. وبالأحرى؛ يعتبر تاريخ الإسلام حالة خاصة، لن تنسخ نتائج بحثنا العامة “.
جرت عادة التاريخ في الفتوحات العظيمة أن تكون على طريقة من اثنتيْن: فتوحات قوية تُسفر عن حكم راسخ لكنها تتم في زمن طويل، أو فتوحات سريعة صاعقة تهيمن على مساحة كبيرة في وقت قصير لكنها ما تلبث أن تزول دون أن تترك أثرا كبيرا في صفحة التاريخ. ويُضرب المثل على الفتوحات القوية الطويلة بالدولة الرومانية، كما يضرب المثل بالفتوحات السريعة الزائلة بالحروب المغولية.
لقد خرقت الفتوحات الإسلامية هذه العادة التاريخية، فقد حققت الطريقتيْن معا: فتوحات قوية وسريعة هيمنت على أجزاء واسعة في وقت قصير، ثم إنها ظلت راسخة متمكنة لمئات السنين، فمثلت بهذا لحظة تاريخية فارقة .
ويصفها الباحث الأمريكي مايكل هارت بأنها “أعظم غزوات عرفتها البشرية”، يقول: “استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية، فاتسعت الأرض تحت أقدام المسلمين من شمالي شبه الجزيرة العربية وشملت الإمبراطورية الفارسية على عهد الساسانيين وإلى الشمال الغربي واكتسحت بيزنطة والإمبراطورية الرومانية الشرقية. وكان العرب أقل بكثير جدا من كل هذه الدول التي غزوها وانتصروا عليها… ورغم ذلك فقد استطاع هؤلاء البدوء المؤمنون بالله وكتابه ورسوله أن يقيموا إمبراطورية واسعة ممتدة من حدود الهند حتى المحيط الأطلسي. وهي أعظم إمبراطورية أقيمت في التاريخ حتى اليوم ” .
الكيان الأول :
وعند الكلام عن الفتوحات الإسلامية لابد أن نعرف بأن أول كيان إسلامي تشكل في المدينة النبوية بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة وكوّن نواة دولة الإسلام ، التي بدأت تنمو وتتوسع بدخول الأفراد والقبائل في الإسلام . وبعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة أخذت الدولة الإسلامية في التوسع ، بعد توافد القبائل على الرسول معلنة إسلامها ، وقبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت دولة الإسلام تشمل الجزيرة العربية بأكملها . وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم اختار المسلمون أبا بكر الصديق رضي الله عنه خليفة لهم بالإجماع . وسميت الفترة التي امتدت من عهد أبي بكر الصديق إلى علي بن أبي طالب بالخلافة الراشدة . ومدتها ثلاثون سنة . وفي أثناء هذه الفترة توسعت الدولة الإسلامية خارج الجزيرة العربية لتشمل بلاد الشام وقبرص والعراق والجزيرة ومصر والنوبة وفارس وليبيا وإفريقية . وكان مركز الدولة في المدينة ؛ باستثناء خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد نقل الخلافة إلى الكوفة بعد الأحداث التي أدت لمقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه .
إن الفتوحات الإسلامية لم تأت وليدة الصدف ، ولم تكن خطة الفتح ارتجالية ، وإنما كانت وفق خطة واضحة بينة ؛ أسسها النبي صلى الله عليه وسلم وسار الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم من بعده على منهجها . فأنفذ أبو بكر بعث أسامة إلى الشام رغم ظروف المدينة الحرجة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بسبب تربص المرتدين للدولة الإسلامية ، وبعد القضاء على حركة المرتدين ، قام أبو بكر رضي الله عنه مباشرة بتوجيه الجيوش الإسلامية إلى العراق والشام وفي وقت واحد ، لمواجهة الدولتين الكبيرتين في العالم آنذاك – دولة فارس الكسروية الساسانية ، ودولة الروم البيزنطية القيصرية – دون أن تهابه القوى المادية ، من حيث العدد والعدة ، وذلك قياماً لما يطلبه الإسلام من تبليغ الدعوة ، واتباعاً لأساليب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتنفيذاً لخطته ، وتحقيقاً لأهداف فرضية الجهاد في سبيل الله . . لقد كان شعار الفاتحين المسلمين في جميع أقطار العالم ما قاله الصحابي ربعي بن عامر أمام كسرى في المدائن “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله ” . لقد كان الهدف من الفتوح ادخال الناس في الإسلام، لينالوا فوز الدنيا والآخرة، فإن هم أبوا خضعوا لأحكام الإسلام ودفعوا الجزية، وبهذا تزول دولة الفرس والروم التي حكمت الأرض لقرون فنشرت الظلم والتفرقة والفاحشة. إنهم قاتلوا ليرحموا الناس ويرفعوا عنهم الظلم، ولقد كان الفاتحون المسلمون أرحم من عرف التاريخ، فهذا أبو بكر يوصي يزيد بن أبي سفيان وهو خارج لقتال الروم: (لا تقتلن امرأة ، ولا صبيا ، ولا كبيرا هرما ، ولا تقطعن شجرا مثمرا ، ولا تخربن عامرا ، ولا تعقرن شاة ، ولا بعيرا ، إلا لمأكلة . ولا تحرقن نخلا ، ولا تفرقنه ، ولا تغلل ، ولا تجبن).
فتوحات العراق :
جيّش الصديق لفتح العراق جيشين : الأول بقيادة خالد بن الوليد حيث أمره الصديق بالسير بعد اليمامة إلى العراق ويبدأ من منطقة الأبلّة وأمره بأن يأتي العراق من أعاليها وأن يتألف الناس ويدعوهم إلى الله عز وجل ، فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم ، وأمره أن لا يكره أحداً على المسير معه ، ولا يستعين بمن ارتد عن الإسلام وإن كان عاد إليه . أما الجيش الثاني فكان بقيادة عياض بن غُنم وكان بين النباج وهي منطقة بالقرب من الأسياح بمنطقة القصيم ، فكتب إليه بأن يغزو العراق من شماله الشرقي ، بادئاً بالمصيخ – على حدود الشام والعراق – وقال له : سر حتى المصيخ وابدأ بها . ثم ادخل العراق من أعلاها حتى تلقى خالداً . وكان المثنى بن حارثة قد قدم على أبي بكر وحث الصديق على محاربة الفرس ، وقال له ابعثني على قومي ففعل ذلك أبو بكر ، فرجع المثنى وشرع في الجهاد بالعراق ، ثم إنه بعث أخاه مسعود إلى أبي بكر يستمده فكتب معه أبو بكر إلى المثنى ؛ أما بعد فإني قد بعثت إليك خالد بن الوليد إلى أرض العراق فاستقبله بمن معك من قومك ثم ساعده ووازره وكانفه ، ولا تعصين له أمراً ولا تخالفن له رأياً . فما كان منه إلا أن سارع بالاستجابة ولحق بخالد هو وجيشه ، وإن هذا موقف يذكر للمثنى حيث لم يغره كثرة جيشه ولا كونه أقدم من خالد في إمرة جيوش العراق ، فلم يحمله ذلك على أن يرى أنه أحق بالقيادة من خالد . بدأت معارك المسلمين في العراق بمعركة ذات السلاسل ( كاظمة ) وفيها قتل خالد بن الوليد القائد الفارسي الكبير هرمز ، وهزم الفرس شر هزيمة وغنموا منهم أموالاً جمة . ثم كانت معركة المذار وقتل فيها يومئذ ثلاثين ألفاً من الفرس وولوا الأدبار ، وتقدم جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد بعد أن أمن سلامة قواته ووضع حاميات تجاه الأبلة والخريبة وموضع جسر البصرة على شط العرب . وبعد هذا الانتصار الكبير للمسلمين عزّز الفرس جيوشه بأمهر قاداته واتجهوا نحو الولجة للوقوف في طريق تقدم خالد إلى الشمال وحتى لا يستولي على الحيرة . وهنا تجلت عبقرية خالد العسكرية وغير اتجاه سير الجيش واتجه ناحية الجنوب ، وقسم الجيش ، واستطاع أن يصل بجيوشه إلى منطقة الولجة واصطدم مع جيوش الأندرزغر قائد الفرس الذي ثبت ثباتاً عظيماً أمام المسلمين ، وفي اللحظة الحاسمة حسب الخطة المرسومة ينقض الجيش الإسلامي من ناحية اليمين والشمال وينزل النصر على المسلمين ويفر الفرس بعد الهزيمة من كل مكان . وتتابعت بعد ذلك انتصارات المسلمين في معارك أليس وأمغيشيا والمقر حتى وصل إلى الحيرة . حيث تمت خطة القائد خالد بن الوليد بضرب الحصار على قصور الحيرة بإدخال الخيل من عسكره ومن ثم تطويق القصور ، وعهد خالد إلى أمرائه أن يدعوا القوم إلى الإسلام فإن أجابوا قبله منهم ، وإن أبوا أمهلوهم يوما، وأمرهم أن لا يمكنوا عدواً منهم بل عليهم أن يناجزوهم ولا يمنعوا المسلمين من قتال عدوهم ففعلوا . ذكر محمود شيت خطاب عن فتح الحيرة : بعد قتال افتتح المسلمون الدور والديرات وأكثروا القتل ، فنادى القسيسون والرهبان : يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم ! فنادى أهل القصور : يا معشر العرب قد قبلنا واحدة من ثلاث ، فكفوا عنا حتى تبلغونا خالداً ، فكفوا عنهم وأرسلوهم إلى خالد . وخلا خالد بأهل كل حصن على حدة ولامهم ، وقال : ” اختاروا واحدة من ثلاث : أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، أو الجزية ، أو المنابذة والمناجزة ” فقالوا : بل نعطيك الجزية فقال خالد : ” تباً لكم ويحكم إن الكفر فلاة مضلة فأحمق العرب من سلكها ” .
لقد كان لفتح الحيرة آثاراً بعيدة ، فالحيرة أول عاصمة من عواصم الأقاليم التي يحكمها بنو ساسان تسقط في أيدي المسلمين ، وحاضرة متقدمة في الطريق إلى المدائن ، لم يكن عامة سكانها من العجم ولكن هذا لا يقلل من أهميتها ، فسقوطها كان له الأثر المعنوي الذي يناسبه في نفوس الفرس والمسلمين على السواء . وهي موطئ قدم مناسب لقفزة هجومية أخرى نحو الهدف الأكبر فضلاً عن ميزتها التي يمنحها لها موضعها من تخوم الصحراء فهي خط إمداد وطريق انسحاب وخط رجعة إذا لزم الأمر . وبفتح الحيرة تحقق شطر من أمل أبي بكر رضي الله عنه في فتح العراق واخضاعه تمهيداً لغزو فارس في عقر دارهم ، وقد قام خالد بن الوليد رضي الله عنه بمهمته في ذلك خير قيام ووصل إلى الحيرة في وقت قياسي ، حيث بدأ صراعه مع الأعداء في شهر محرم من العام الثاني عشر في معركة كاظمة ، وانتهى من فتح الحيرة في شهر ربيع الأول من العام نفسه (قرابة ثلاثة شهور فقط ! ) . واستمرت معارك المسلمين في العراق بعد فتح الحيرة فكانت معركة الأنبار ( ذات العيون ) وبعدها عين التمر وفتح دومة الجندل ومعركة المصيخ والفراض وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة في شرقي الفرات واجتمع الروم والفرس والعرب على جيش المسلمين وكانت موقعة عظيمة قتل فيها مائة ألف من جيوش الكفار وانتصر المسلمون ، ثم رجع خالد إلى الحيرة لعشر بقين من ذي الحجة سنة 12 هـ.
فتوحات بلاد الشام :
وأما على جانب فتوحات بلاد الشام ، فقد قسّم أبو بكر الصديق الجيوش إلى أربعة أقسام : الأول أمّر عليه خالد بن سعيد العاص ثم لرأي أبداه عمر بن الخطاب تم تغيير القائد ووضع يزيد بن أبي سفيان وحدد له دمشق كهدف ، وأما الجيش الثاني فكان بقيادة شرحبيل بن حسنة وهدفه بصرى عاصمة حوران ، والجيش الثالث بقيادة أبي عبيدة بن الجراح وهدفه حمص ، والجيش الرابع بقيادة عمرو بن العاص وهدفه فلسطين على أن يسلك طريق البحر الأحمر . والواضح أنه لم تكن مهمة هذه الجيوش القيام بعمليات عسكرية واسعة ضد البيزنطيين ، بل كانت أبسط من ذلك وهي محاولة إدخال السكان العرب في شمال الجزيرة العربية في المجال الإسلامي . وفي المقابل كانت الخطة البيزنطية لوقف الزحف الإسلامي تتمثل في تراجع البيزنطيين وفق خطة تكتيكية ويخلون للمسلمين عن مناطق الحدود الشمالية للجزيرة العربية ، وتتجمع وحدات الجيش البيزنطي الأول في فلسطين بعد تعزيزها لمواجهة جيش عمرو بن العاص ، وتتجمع وحدات الجيش الثاني في أنطاكية وتزحف إلى حمص وتباشر القتال مع كل جيش من الجيوش الإسلامية الثلاثة بشكل منفرد فتهزمه ثم تميل على الآخر وهكذا حتى تنتهي منهم جميعاً . ولهذا تراجع البيزنطيين بسرعة من أمام المسلمين متخليين عن الأراضي المتاخمة لحدود الجزيرة العربية ، ثم استجمعوا قواهم في أنطاكية وفلسطين استعداداً للتصدي للمسلمين . وأمام هذا التطور الخطير ، استقر الرأي على اقتراح قدمه عمرو بن العاص ويقضي باجتماع الجيوش في مكان واحد وبالجلاء بأقصى سرعة من المناطق التي فتحوها في الداخل والتراجع حتى جوار بصرى . وتنفيذا لهذه الخطة سار أبو عبيدة باتجاه بصرى وجلا يزيد عن الغوطة ورفع الحصار عن دمشق ، ثم جلا شرحبيل رافعاً الحصار عن بصرى واجتمعت الجيوش الثلاثة في جوار بصرى في حين أخذ عمرو بن العاص ينسحب تدريجياً بمحاذاة الضفة الغربية لنهر الأردن . وكتب أبو عبيدة رسالة إلى أبي بكر يعلمه بقرار القادة ويطلب موافقته عليه . وفعلاً وافق أبو بكر على هذا القرار وأدرك بذكائه في الوقت نفسه حرج موقف المسلمين على الجبهة الشامية ، وأنهم بحاجة إلى قيادة عسكرية فذة تخرجهم من هذا الوضع الحرج ، ووجدها في خالد بن الوليد فاستشار أصحابه فوافقوه . كتب أبو بكر رسالة إلى خالد وهو في العراق يأمره بالتوجه إلى بلاد الشام حيث كان وقتها في الحيرة . قسّم خالد قبل مغادرته العراق جيشه إلى قسمين ، اصطحب معه تسعة آلاف وهم الذين قدموا معه يوم جاء إلى العراق ، وترك ثمانية آلاف بقيادة المثنى . وسار بجيشه بطرق لم تعهد من قبل وقطع المسافة بين الحيرة وبصرى في ثمانية عشر يوماً وهو وقت قياسي بعرف ذاك الزمان ، وفي أثناء مسيره فتح تدمر وكانت من المراكز العسكرية المحصنة والقريتين ( من أعمال حمص ) وحوارين ( من قرى حلب ) حتى اجتازوا غوطة دمشق من الشمال إلى الجنوب حتى وصلوا فناء بصرى والتقى بجيوش المسلمين . وكانت معركة أجنادين أول نصر يحققه المسلمون على البيزنطيين بعد وصول جيش خالد ومن ثم توجه المسلمون إلى دمشق بعد أن فرغوا من أجنادين عبر الجولان ولما وصلوا إليها ضربوا عليها حصاراً مركزاً . وفي أثناء ذلك أرسل هرقل جيشاً لمساعدة أهل دمشق فاعترضه المسلمون في منطقة مرج الصفّر وانتصروا عليه وقتلوا عدداً كبيراً من البيزنطيين . ثم عاد المسلمون بعد انتهاء المعركة إلى دمشق . فنزل خالد على الباب الشرقي وأبو عبيدة أمام باب الجابية ، ويزيد على بعض أبوابها ، وعمرو بن العاص على باب آخر . وجاءهم وهم على هذا الحال نعي الخليفة أبي بكر الذي توفي مساء الثلاثاء في 21 جمادي الآخرة 13 هـ ، وتولى عمر بن الخطاب الخلافة بعده . وبهذا ينتهي المقال الأول من الفتوحات الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة ومقالنا القادم بإذن الله مع الفتوحات في عهد الفاروق عمر بن الخطاب.