دراسات معاصرة

بلاغة الحِجاج

فاتحة

سأتتبّع في هذا التقرير مفهموم الحجاج وتقنياته بدءًا من أرسطو ومرورًا بقدماء البلاغيين العرب أمثال ابن الأثير وأبي هلال العسكري والجاحظ ووصولا إلى المحدثين من البلاغيين أمثال ليبرمان وتيتيكا وماير وغيرهم، في محاولة لرصد تطور دلالة مفهوم الحجاج عبر هذه العصور ومدى وثاقة صلته بـ “البلاغة القديمة والجديدة”.

عند أرسطو

يعرف أرسطو البلاغة بأنها: الكشف عن الطرق الممكنة للإقناع. فهو يربط البلاغة بالإقناع بشكل واضح، وبالتالي ثمة صلة عنده بين مفهومي الحجاج والبلاغة، وتظهر هذه الصلة في الفنون التي من شأنها أن تستخدم الملكة اللغوية في التوجيه والتعبئة وغيرها مثل الخطابة.

عند البلاغيين العرب المتقدمين

تدور التعريفات العربية للبلاغة حول التأثير بالمستمع بأفضل الألفاظ. وغالبا ما يتم دمج مفهومي البلاغة والحجاج كما نرى ذلك جليا عند ابن الأثير حيث يقول: “مدار البلاغة كلها على استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم، لأنه لا انتفاع بإيراد الأفكار المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها.”[1] فالغاية من البلاغة عند ابن الأثير هي استدراج المستمع للإذعان لما يطرح عليه. أما بشر ابن المعتمر فمفهوم البلاغة عنده “أن يكون لفظك رشيقا عذبا، وفخما سهلا ويكون ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت.” [2]

ويقول الجاحظ نقلا عن بعض أهل الهند: إن جماع البلاغة البصرُ بالحجة، والمعرفة بمواقع الفرصة” [3]وبالمجمل فإن البلاغة عند الجاحظ تؤدي عدة أغراض منها الإفادة والإثارة والإمتاع، والإقناع، فجعل الحجاج المتمثل في “الإقناع” جزءا من البلاغة، خاصة حين نقرأ هذا السياق في ضوء قوله عن الكلام البليغ: “يصنع في القلوب صنيعَ الغيث في التربة الكريمة”.

السبيل إلى الحجاج

للحجاج تقنيات عديدة منها أن تأتي بالمعنى ثم تأتي بمعنى أخر يجري مجرى الحجة على المعنى الأول، وما يأتي في كلام الشاعر من تمثيل واستعارة وكناية هي من هذا الباب وتعد حججا على المعنى الذي يقدمه للسامع بغية إقناعه والتأثير فيه. وعليه فإن المعاني في سياق الحجاج يجب أن تكون جلية ومفهومة ونيّرة، تجذب المستمع وتصيب مقعدا في قلبه، ولا يحسن أن تكون مما يلغز على الأفهام، ويلوي أعناق الكلام، ويترك السامع أكثر ضياعا وحيرة منه قبل سماعه. كما ينبغي للفظ في سياق الحجاج أن لا يكون مستقبحا غريبا، يقول الجرجاني: “أن تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في زمانهم ويتداولونه في استعمالاتهم”[4] “ولا يكونُ الكلامُ يستحقُّ اسمَ البلاغةِ حتى يُسابِقَ معناهُ لفظَهُ، ولفظُه معناه، ولا يكونَ لفظُه أسبقَ إِلى سمعك من معناه إِلى قلبكَ.”[5]

عند البلاغين المحدثين

عرف ميشيل ماير الحجاج بأنه “جهد إقناعي وبعد جوهري في اللغة”[6] أما في البحث التداولي، فإن ليبرمان وتيتيكا لا يعدان الحجاج تلاعبا بعقل المتلقي، بل الحجاج هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات. وقد قسما الحجج إلى ثلاثة أنواع:

1. الحجج شبه المنطقية:

منها التناقض وعدم الاتفاق، التماثل والحد في الحجاج، الحجة القائمة على العلاقة التبادلية، والتعدية، وتقسيم الكل على الأجزاء المكونة له، والاشتمال، والاحتمال.

2. الحجج المؤسَّسة على بنية الواقع:

تقوم هذه الحجج على العلاقات التي تربط بين الأشياء والعالم، ومنها العلاقات الكنائية والمجازية المرسلة. ومن هذه الحجج: التتابع، الحجة السببية، والحجة التداولية وغيرها.

3. الحجج المؤسِّسة لبنية الواقع:

تستند هذ الحجج إلى أشياء مرتبطة زمانيا أو مكانيا أو رمزيا، ومن الأمثلة عليها حجة الشاهد، وحجة التشبيه، وحجة المثال، وحجة القدوة، والمقارنة، والتناسب.

مقاصد الحجاج

للحجاج عدة مقاصد يفضي إليه ويُقيّم بناءً على تحقيقها -تداوليا- ومن هذه المقاصد:

1. المقصدية فكرية (الإقناعية):

وهي من جنس ما يدور في المباحث والمناظرات العلمية إثباتا ونفيا ورصدا وتحليلا، فيكون القصد منها فكريا في جوهره، ويهدف إلى الإقناع في المقام الأول.

2.مقصدية عاطفية (الجمالية):

تتمثل في غرض الاستجداء أو الاستمالة القلبية، لجذب المستمع إلى التعاطف من خلال التقنيات الحجاجية.

3. مقصدية انفعالية (الجماهيرية):

وهي الملمح الجلي في الخُطَب عامة، ومنها تهييج المشاعر، والدفع نحو الاندماج والتفاعل الإيجابي مع ما يقوله الخطيب.


هذا والله أعلى وأعلم.


[1] المثل السائر، ابن الأثير 2/64

[2] البيان والتبيين، الجاحظ، 129

[3] البيان والتبيين، الجاحظ  92

[4] أسرار البلاغة، الجرجاني 6

[5] دلائل الإعجاز،  الجرجاني 267

[6] الحكاية المثلية عند ابن المقفع، إبراهيم بن صالح 102

لسماع المقالة: https://anchor.fm/daowair/episodes/ep-e1649oa

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى