دراسات معاصرة

دولة الخلافة الراشدة (5)

استكمالاً لما بدأناه في مقالنا الأول ، والذي تناول الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر الصديق وما كان للمسلمين فيه من معارك وبطولات ، في هذه الحروب التي خاضها المسلمون ترجموا فيها استراتيجية الحرب وفق المنهج الذي التزموا به ، فجاءت بتفاصيلها ونتائجها فذة مميزة لم تعهد الإنسانية حروباً تشبهها من حيث الأداء والنتائج ، وكان سقف المطالب فيها رفيعاً إنسانياً عقائدياً همه تحرير الإنسان وفتح القلوب . أجل لقد كانت نقلة نوعية سمت بالإنسان بصرف الظلم والعبودية عنه وتحريراً لإرادته ليختار بحرية دوره ، وما يريد أن يؤمن به بعيداً عن الارتهان لإرادات الآخرين الذين يقولون لشعوبهم ( ما أريكم إلا ما أرى ) ، ( وأنا ربكم الأعلى ) . إنه نمط جديد من الحروب حُيّد فيه الضعفاء من الشيوخ والولدان والنساء والعبيد ، حيدت فيه أموالهم وممتلكاتهم ، وتبينت فيه دوافع هذه الحروب ، وأعلنت بل اتخذت واجهة إعلامية تتقدم الجيوش ، وتسبق المعارك بدعوة الطرف الآخر إلى إحدى ثلاث ، الإسلام أو الجزية ، ويعيشون بأمن وسلام معاهدين مصونة أموالهم وأماكن عبادتهم وحريتهم ، أو القتال حتى تزال العقبات الموصدة بين الناس وحقهم في الاختيار المشروع ، ومن يقاتل فهو من له مصلحة في بقاء الواقع الذي يخدم تسلطهم ونفوذهم ، فإذا نُحوا عن صدور الناس يبقى الخيار مفتوحاً على مصارعه ليختاروا لأنفسهم ما يشاءون .   

قرار حكيم وفتوحات العراق  

نتناول في مقالنا الثاني تفاصيل الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين . الذي ما كاد يفرغ من دفن أبي بكر الصديق حتى دعا الناس إلى التطوع لحرب الفرس مع المثنى بن حارثة ، والذي اضطر على الرغم من براعته القتالية أن ينكفئ إلى الحيرة ويتحصن فيها مع احتفاظه بكل ما غنمه المسلمون من سواد العراق ، وذلك لأن جيش العراق قد ضعف بغياب خالد وبخاصة أنه فصل معه أكثر من نصف القوات ، والذي توجه بدوره إلى الشام بناء على أوامر تلقاها من أبي بكر الصديق . كان أول إجراء سياسي اتخذه الفاروق حيال هذه المشكلة هو رفع الحاجز بين القبائل التي استمرت على إسلامها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبين القبائل التي ارتدت ، فدعا من كان قد ارتد ثم تاب وحسن إسلامه للاشتراك في الفتوح خلافاً لسياسة أبي بكر في استبعادهم عن معارك الفتوح بسبب قرب عهدهم بالردة . وقد أحدثت هذه الانعطافة تطورات جوهرية وفتحت آفاقاً واسعة وجديدة لحركة الفتوح القائمة على أراضي دولتي الفرس وبيزنطة ، الأمر الذي أسفر في وقت قصير جداً عن تغيير طابع الحملات تغييراً كلياً . وقد اختار عمر أبا عبيد بن مسعود الثقفي قائداً للجيش لأنه أول من لبى النداء ، وأرسل المثنى إلى العراق على عجل لتهيئة الأجواء وليستغل الوضع الداخلي المتدهور للفرس ، ولاستنفار من حسن إسلامه من أهل الردة . في أثناء ذلك كان الفرس يحاولون إصلاح الوضع الداخلي بسبب الصراع على العرش وتهاوي عدة ملوك في تسارع مستمر وفي مدة زمنية قياسية ، فأعادوا ترتيب صفوفهم وجهزوا جيشاً كبيراً استقر في مكان يسمى النمارق ( قرب الكوفة ) بين الحيرة والقادسية  وهناك عبأ أبو عبيد جيش المسلمين البالغ عشرة آلاف مقاتل ودارت معركة بين الطرفين هزم فيها الفرس . استمرت انتصارات المسلمين ففي معركة السقاطية رفع الانتصار الروح المعنوية للمسلمين وحفزهم على تكثيف حملاتهم في السواد . وهنا أثار الانتشار الواسع للمسلمين في قرى السواد حفيظة الفرس الذين بدأوا يستوعبون مقدار الخطر الحقيقي الذي بات يهددهم . فجهزوا جيشاً آخر قوامه اثنا عشر ألف مقاتل وأرسلوه إلى الحيرة بقيادة بهمن جاذويه وهو من أشد العجم على العرب المسلمين ، واصطحب معه عدداً من الفيلة . ويبدو أن القائد الفارسي أراد أن يكسب معركة أمام المسلمين تعيد إلى دولته موازنة الموقف ، ولحكومته هيبتها ولجيوشه الروح المعنوية . فكان اللقاء المرتقب في معركة الجسر والذي ارتكب فيها أبو عبيد الثقفي خطأً كبيراً عندما قرر عبور الجيش إلى الجانب الفارسي لنهر الفرات الذي يفصل بين الجيشين على الرغم من معارضة أركان حربه فخسر بذلك مكاناً ملائماً للعمليات العسكرية وفقاً لأساليب العرب القتالية ، وعبر المسلمون نهر الفرات فوق الجسر الذي أقيم لهذه الغاية وقد ترك لهم قائد الفرس بهمن مكاناً ضيقاً أجبرهم على النزول فيه خالياً من مجال الكر والفر  مما أفقدهم حرية الحركة والانتشار ، وارتكب أبو عبيد خطاً آخر حين قطع الجسر حتى يحول دون تفكير جنوده التراجع والانسحاب ، ودارت بين الطرفين رحى معركة ضارية أدت الفيلة فيها دوراً كبيراً ، وكانت معركة غير متكافئة قتل خلالها أبو عبيد تحت أقدام الفيلة مع عدد من القادة المسلمين ، عندئذ أدرك المثنى حرج الموقف وأن المعركة خاسرة فآثر الانسحاب لينقذ بقية الجيش بعد أن أعاد وصل الجسر وانسحب مع الجيش باتجاه أليس.. كانت معركة الجسر في شعبان 13 هـ أول معركة يخسرها المسلمون أمام الفرس ، وتعد تجربة حية في حروبهم لإثبات قيمة كفاءة القيادة ، إذ أن الإيمان والشجاعة وحدهما لا يكفيان لتحقيق الانتصار ، والحماسة المتهورة والعواطف غير المنضبطة قد تكون سبباً للهزيمة إذا لم تستند لأسس صحيحة وتخطيط سليم .

 أضحى استمرار التقدم مستحيلاً بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر دون إدخال إمدادات جديدة ، إذ أن الآلاف الثلاثة من المقاتلين الذين نجوا من المعركة شكلوا أصغر قوة إسلامية منذ بدء الفتح على أرض العراق . تلقى عمر بن الخطاب نبأ الهزيمة بتأثر بالغ وشق ذلك أيضاً على المسلمين في المدينة ، وأدرك عمر أن المثنى بحاجة إلى مدد يرسل إليه على وجه السرعة كي يواجه هذا الموقف الدقيق . وبذل رضي الله عنه جهداً كبيراً في تشكيل حشود ضخمة على أرض العراق ، ومن ناحية أخرى أرسل المثنى النقباء إلى جميع المناطق الحدودية تستنفر العرب . تناهت إلى أسماع الفرس أنباء الإمدادات الإسلامية التي كانت ترسل تباعاً إلى العراق ، فهالهم أمرها ، وأدركوا أن انتصارهم في معركة الجسر لم يكن حاسماً . وجهزوا جيشاً قوامه اثنا عشر ألف مقاتل بقيادة مهران بن باذان واتجه نحو الحيرة معقل المسلمين ، وعندما علم المثنى بأنباء هذا الخروج قرر أن يتحرك على الفور للاصطدام به ، والتقى الجيشان في منطقة البويب واشتبكا في معركة طاحنة ، أدارها المثنى بحكمة بالغة حيث اختار أرض المعركة وكانت محصورة بين الفرات والبويب ( نهر صغير ) وهي تصلح لنصب الكمائن للعدو مما كفل له النصر ، وقتل مهران وتشتت جيشه وفر أفراده في فوضى واضطراب ، وبعد هذا الانتصار المهم الذي أعاد الثقة في نفوس المسلمين كان المقابل لهذه الأحداث السلبية رد فعل في الدوائر الحاكمة في فارس ، إذ أن الهزائم المتكررة أدت إلى فقدان التوازن في دولة هرمة وعاجزة ، وتنبه حكام الفرس لخطورة الموقف ، وأدركوا أن الأمور لا تسير على نحو طيب ، إذ أن ما بعد بغداد وساباط وتكريت سوى المدائن . واضطروا راغمين للاتفاق وإحداث صحوة سياسية وعسكرية لإنقاذ الموقف ، وخرج رستم القائد العسكري للفرس من المدائن لمحاربة المسلمين بقوات ضخمة بلغت مائة وعشرين ألف مقاتل نصفهم من الفرسان الدارعين ، معززين بالفيلة والأدوات الحربية المتطورة قياساً إلى الأسلحة التي كانت بحوزة المسلمين . فالتفوق كان ملحوظاً نظرياً لمصلحة الفرس ، إلا أنهم لم يكن باستطاعتهم الارتقاء إلى مستوى القضية الإيمانية وهي السلاح الأقوى لدى المسلمين في كل العصور . فقد بلغ النظام الساساني آنذاك حداً كبيراً من الانهيار ، وانحدرت معه قيم المجتمع لتخدم الفئة الحاكمة التي التفت حول كسرى فارس يزدجرد ، والمرتبطة عضوياً بمصالح كبار رجال الدين، مما ولد حالة من التباعد وانعدام الانتماء بين النظام والشعب.

معركة القادسية والسقوط المجوسي

قدر عمر خطر الاصطدام بالفرس هذه المرة حق قدره ، وبعد مشاورات مستفيضة مع كبار الصحابة تقرر إعادة انتشار القوات الإسلامية في العراق كخطوة أولى لتجنيبها الإبادة على يد الفرس ، وبانتظار إمدادات قوية جديدة إلى ميدان المعركة . وهنا طبق عمر بن الخطاب مبدأ الشورى في الحكم الإسلامي ، فلم يمارس الخليفة سلطته المطلقة ، ولم يكن حاكماً دكتاتورياً ( ثيوقراطياً ) كما يدعي الجاهلون ، قام عمر بتكثيف سياسته التعبوية بين قبائل الردة وحثها على الانخراط في الجيش الذي سوف يتوجه إلى العراق ، وأخذ يجمع كل قادر على حمل السلاح والقتال ، ثم أمر جميع القبائل المقاتلة التي كانت مع خالد بن الوليد في السواد وذهبت معه إلى الشام بالعودة إلى العراق والالتحاق بجيوش المسلمين هناك . خرج سعد بن أبي وقاص الذي تم تعيينه قائداً عاماً للحملة وهو أحد الصحابة المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن المشاركين في العمليات العسكرية الأولى بين المدينة ومكة، وكانت كفاءته والظروف الصعبة التي يمر بها المسلمون في العراق وراء اختياره لهذه المهمة  خرج سعد من المدينة على رأس ستة آلاف مقاتل اصطحبوا معهم نساءهم وأبناءهم قاصداً العراق ، وكان عمر بردفه بمن يتوافد على المدينة من المقاتلين . وشاءت إرادة الله استشهاد المثنى متأثراً بجراحه التي أصيب بها في معركة الجسر قبل أن يلتقي بسعد ، وكان قد كتب وصيته لسعد تتضمن خلاصة تجاربه العسكرية في العراق . وكانت محصلة هذه التدابير تشكيل جيش بلغ تعداده بضعة وثلاثين ألف مقاتل . وكان جيش القادسية بضعة وسبعون من أهل بدر وثلاثمئة وبضع عشرة ممن كانت لهم صحبة ، وسبعمائة من أبناء الصحابة .

  والجدير بالذكر أن عمر وسعداً بتنظيمهما لهذا الجيش قاما بوضع الأشكال التنظيمية الأساسية لجيوش المسلمين في هذه المرحلة  وهي ستغدو عما قريب الأساس التنظيمي لديوان عمر ، كما بلورت وعياً جديداً لدى المقاتلين حيث بدا واضحاً توسع رقعة الاستفادة من الغنائم بالانتقال من غزو قرية أو مدينة إلى غزو شامل للأراضي الفارسية بأكملها . وضع سعد خطته العسكرية على قاعدة اختيار مكان مناسب لخوض المعركة على أن يكون على الحدود الطبيعية بين الصحراء وبين المسالك والمسطحات المائية ، ويحفظ خط الرجعة لجيش المسلمين إذا دارت الدائرة عليهم ، لأنه ليس وراءهم إلا الصحراء . في حين تكون هذه العوائق المائية نكبة على الفرس إذا دارت الدائرة عليهم ، لأنها ستعرقل انسحابهم . وأن تكون المعركة حاسمة تقضي على القوة الميدانية للجيش الفارسي بحيث يتعذر على الفرس حشد قوة أخرى بعدها . وقد جرت عدة مفاوضات سبقت المعركة بين المسلمين والفرس باءت بالفشل . التحم أقدر قائدين على أرض العراق في رحى معركة طاحنة استمرت ثلاثة أيام ونصف اليوم تبادل الطرفان خلالها النصر والهزيمة ، وانتهت بانتصار المسلمين وقتل رستم في المعركة . جرت في شعبان من السنة الخامسة عشر للهجرة . كانت القادسية نموذجاً مميزاً من نماذج التكتيك العسكري الإسلامي ، حيث برع المسلمون فيها بإتقان المناورة التكتيكية التي تتلاءم مع كل حالة قتالية من حالات المعركة وتعبئة الجيوش ودراسة أرض المعركة بعناية ، تمتع المسلمون بمعنويات مرتفعة ، قائمة على إيمان قوي لا يزعزع منحت المقاتلين أعلى درجات الشجاعة ، فهاجموا الفيلة المدرعة والمدربة وعليها المقاتلين وأخرجوها من المعركة ، فكانوا يقطعون خراطيمها بعد رميها بالنبال ، والإبل المبرقعة لإخافة خيل الفرس ، كما واجهوا الأعداد الهائلة من المشاة الفرس وفرسانهم الدارعين . كان الانتصار في القادسية بداية الفتوح الحقيقية لبلاد فارس وبالتالي انهيار الإمبراطورية الفارسية الساسانية ووفرت الفرصة التاريخية الكبرى التي سمحت للمسلمين بالتوغل في عمق الأراضي الفارسية دون عقبات كبيرة ، وغدت  مسألة إخضاع البلاد بعد هزيمة رستم مسألة وقت .

استكمال فتوح العراق وفارس

وفي خطوات متلاحقة بعد معركة القادسية تم استكمال فتوح العراق بفتح المدائن (عاصمة الفرس) ، فلما فتح الله على المسلمين القادسية وقتل رستم وأصحابه وتفرقت جموعهم حتى نزلوا المدائن ، قاتلهم المسلمون حتى فتحوا المدينة وولى الفرس هراباً ، وهرب ملكهم يزجرد ، ولما دخلوا المدينة لم يجدوا بها أحداً ، إلا من كان بالقصر الأبيض ، فأحاطوا بهم ودعوهم فاستجابوا لنداء سعد على الجزاء والذمة ، وتحقق ما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها .” ثم ضرب الثانية فقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ” . وفتح جلولاء وحلوان وتطهير العراق من بقايا الوجود الفارسي ومن ثم فتح تكريت ونينوى والموصل كما تم بناء البصرة والكوفة واسكان قبائل المسلمين بهما. أما بالنسبة لفتوح فارس ( إيران ) فاستمرت الفتوح اتجاه الأهواز وتستر ثم فتح نهاوند وهمذان وأصفهان والري وجرجان وطبرستان وأذربيجان وخراسان ومكران ( تدخل ضمن أراضي السند ) . وهكذا تم تجريد يزدجرد من كل أرضه واضطروه على الفرار إلى آخر حدود مملكته ولم يبق أمامه سوى الالتجاء إلى جيرانه وطلب مساعدتهم إلى أن قتل وهو فار في أراضي الترك .

فتوحات الشام

 وأما على جانب فتوحات بلاد الشام ، فكان من أول القرارات التي اتخذها عمر بن الخطاب عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش في بلاد الشام . وبعيداً عن الأسباب المبنية على عداوة قديمة واتهامات شخصية لأنها واهية ولا تثبت أمام النقد البناء ، لما اشتهر به عمر من عدالة ونزاهة وترفع عن الصغائر وجرأة في قول الحق تنزهه عن الوقوع في حمأة الحقد والضغينة . لذا نرى أن الروايات التي تذكر قلق عمر من تعلق الناس بشخص خالد تتسم بالأهمية والوجاهة وجاء في بعض الروايات عنه ” إني لم أعزل خالد والمثنى عن ريبة ولكن الناس عظموهما وخشيت أن يوكلوا إليهما ” . ويبقى أن مسألة العزل لها دوافعها المبررة التي رآها عمر ومنها : مصلحة الأمة ؛ فعزل قائد أو وال كان أمراً طبيعياً آنذاك ، ولم يكن تعيين أبو عبيدة إساءة إلى خالد بمقدار ما كان محاولة من الخليفة للتأثير بنفسه على مجريات الأحداث ، كما أن الظروف السياسية تغيرت من واقع تغيير الحكام بالإضافة إلى تغير الظروف العسكرية نتيجة توغل المسلمين في بلاد الشام وما يمكن أن ينتج عن ذلك من نظام جديد مثل فتح المدن وتنظيم عمليات الفتح ، والعلاقة مع سكان البلدان المفتوحة إذ أن الوضع الجديد المتوقع بحاجة إلى رجل إداري مسالم كأبي عبيدة ، وبهذا تنم عملية عزل خالد عن براعة سياسية من عمر وبعد نظر . كما أن مكانة خالد ظلت محفوظة من قبل عمر وأبي عبيدة ، حيث عمل خالد تحت إمرة أبي عبيدة نحواً من أربع سنوات فلم يعرف عنه أنه اختلف عليه مرة واحدة ، ولا ينكر فضل أبي عبيدة وسمو أخلاقه في تخفيف وقع الحادث على خالد ، فقد كان لحفاوته به وعرفانه لقدره وملازمته صحبته والأخذ بمشورته أحسن الأثر في صفاء قلبه ، جعله يصنع البطولات العسكرية النادرة كما في فتح دمشق وقنسرين وفحل وكان بمثابة القائد الفعلي لمعركة اليرموك كما سيأتي .

في أثناء ذلك انسحبت فلول القوات البيزنطية بعد معركة أجنادين إلى دمشق وتحصنت فيها ، وكان الإمبراطور هرقل يتابع تطورات الموقف العسكري ، فأمر بتجميع القوات البيزنطية المنتشرة في جنوبي بلاد الشام في فحل – بيسان الواقعة على الطريق بين الأردن ودمشق ، وأرسل في الوقت نفسه جيشاً من حمص يقدر بعشرة آلاف مقاتل بقيادة درنجارين باتجاه دمشق ، وذلك بهدف الإطباق على المسلمين من الجنوب والشمال ، والقضاء عليهم وإنقاذ دمشق المحاصرة من قبلهم . كما حشد البيزنطيون زهاء ثمانين ألف بقيادة سقلار بن مخراق ، ودمروا سدود الأنهار الغربية لعرقلة تقدم المسلمين وخشية منهم أن يفاجئوهم ، فامتلأت الأرض بالماء من بيسان إلى فحل . في الوقت الذي تجمع فيه جيش أبو عبيدة مع خالد وساروا إلى فحل – بيسان لضرب القوة المتمركزة هناك ، كما انحاز إليهم بعض القبائل المتنصرة . عبأ الطرفان قواتهما استعداداً للقتال ، واشتبكا في رحى معركة ضارية انتهت بانتصار المسلمين ، وقذفوا البيزنطيين في الوحول التي حاولوا هم قذفهم فيها ، وهزم شقلار وجنوده وقتل منهم ما يقارب العشرة آلاف مقاتل . فتحت هذه المعركة الطريق أمام المسلمين فسيطروا على جميع مدن وقرى إقليم الأردن بسهولة مثل بيسان وطبرية ، واضطر السكان إلى طلب الأمان وكتبت عهود الصلح في كل مكان بمنح الأمان على أرواح المغلوبين وأموالهم وأرضهم وكنائسهم مقابل الجزية . وكان بعدها انتصار المسلمين في معارك مرج الروم وفتح دمشق وفتح بعلبك وحمص . وكان رأي عمر أن يستقر المسلمون في حمص حتى نهاية الحول قبل أن ينطلقوا نحو الشمال ، فاستقر أبو عبيدة فيها وأرسل خالداً إلى دمشق ليقيم بها ، ومكث عمرو بن العاص في فلسطين .

معركة اليرموك الفاصلة

حاول الإمبراطور البيزنطي إعادة تشكيل قواته وتكثيفها على نحو يطمئن معه إلى تعديل الموقف في بلاد الشام بعد هذه الهزائم  فكتب لعماله أن يحشدوا كل من أدرك الحلم من سكان الإمبراطورية . كما دعا سكان العاصمة القسطنطينية بالتطوع للقتال بالإضافة إلى تجنيد أعداد من المرتزقة والأرمن وبعض نصارى العرب ، واستطاع أن يجمع جيشاً يفوق تعداده مائة ألف مقاتل وقيل أكثر من مائتي ألف كما في بعض المصادر وفي هذا نظر . وفي جانب استعداد جيش المسلمين للقتال فوض أبو عبيدة سلطانه إلى خالد إذ كان أقدر القادة على تحمل مسؤوليات المهمات الصعبة ، فاختار اليرموك مركزاً لتجمع القوات فوصل المسلمون إلى اليرموك وكانوا قد وجدوا البيزنطيين قد سبقوهم إليه . فنزلوا عليهم بحذائهم وعلى طريقهم ، إذ ليس للبيزنطيين طريق عليهم وبلغ عدد جيش المسلمين قرابة ستة وثلاثين ألف مقاتل . شارك من الصحابة في يوم اليرموك ألف صحابي منهم مائة من البدريين . اعتمد المسلمون لأول مرة في تاريخ الحروب الإسلامية تنظيم الكراديس مع تنظيم الجيش مجتمعين . فعبأ خالد جيشه مشاة وخياله في ستة وثلاثين كردوساً  كل كردوس مؤلف من ألف مقاتل ، وضع خالد خطته العسكرية على أساس أن يثبت المسلمون أمام هجمات البيزنطيين حتى تتضعضع هذه الهجمات وتتصدع صفوفهم ودارت في وادي اليرموك سلسلة من المعارك بين الطرفين على مدى خمسة أيام لم تكن متتالية ، انتقل فيها المسلمون من نصر إلى نصر حتى توجوا هذه الانتصارات بضربة قاصمة وجهوها إلى البيزنطيين يوم الواقوصة ( وادي سحيق ) وهو اليوم الخامس من القتال وكان يوم الاثنين 5 رجب سنة 15 هـ . وقد تميز بهجوم إسلامي عام وشامل على القوات البيزنطية في ظروف طبيعية شديدة الحرارة ، وبدأت بعدها جموع البيزنطيين تترنح تحت ضربات المسلمين وبدا الإرهاق واضحاً عليهم ، فمشاتهم وفرسانهم مثقلون بالعتاد والسلاح مما أثر على مقدرتهم القتالية ، فهم قليلو الحركة بطيئو المناورة . في حين يقاتل المسلم راجلاً وفارساً بخفة وسرعة . انسحب باهان قائد الروم مع ما بقي من جنوده ، وحمل المسلمون على من تبقى من القوات البيزنطية والتي كانت أشبه بكتل بشرية ضخمة تدور حول نفسها ولا تعرف من أين تؤتى ، فتراجع الجنود تحت ضغط القتال نحو وادي اليرموك دون وعي فسقط أكثرهم في الواقوصة . ولم تكد تغب شمس ذلك اليوم حتى كان آخر مقاتل بيزنطي قد أخلى ساحة القتال ، إما هارباً أو جثة هامدة أو في قاع الوادي . بلغت خسائر البيزنطيين سبعين ألفاً وقدرت خسائر المسلمين بثلاثة آلف قتيل وجريح ، وكان من القتلى عكرمة بن أبي جهل وقد وجد به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة. وكتب أبو عبيدة بالنصر إلى عمر وأرسل إليه سفارة صغيرة فيها حذيفة بن اليمان وكان عمر لم ينم منذ ثلاثة أيام وهو يتسقط أخبار اليرموك ، وعندما جاءه البشير خر ساجداً شكراً لله . استمرت فتوحات المسلمين في الشام بعد تراجع الجيوش البيزنطية فاستطاعوا أن يجتاحوا شمالي بلاد الشام وإقليم الجزيرة الفراتية وصولاً إلى أرمينية .

فتح بين المقدس

بعد أن أتم عمرو بن العاص تطهير الأراضي الفلسطينية ، لم يبق سوى قيسارية وإيلياء ( بيت المقدس ) ، أما قيسارية فهي مدينة ساحلية سبيلها إلى بيزنطة موصول بالبحر ، وأما القدس فقد صارت جيباً معزولاً محاصراً فوق جبال الجليل ولئن كانت لدمشق الأهمية الأولى من الناحية الحربية لحصانتها واعتصامها خلف أسوارها حتى غدت قلعة منيعة تخترقها الأنهار ، فقد كان للقدس قداستها وأهميتها الدينية والروحية وما زالت حتى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة ، وهي بالنسبة للمسلمين أولى القبلتين ومسرى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم . وبعد تضييق المسلمين الحصار على بيت المقدس ، كتب أرطبون الروم إلى عمرو بن العاص يقول : ” إنك صديقي ونظيري ، أنت في قومك مثلي في قومي ، والله لا تفتح من فلسطين شيئاً بعد أجنادين ، فارجع ولا تُغره فتلقى ما لقي الذين من قبلك من الهزائم ” . فكتب إليه عمرو كتاباً يقول فيه : إنه صاحب فتح هذه البلاد وأرسل الكتاب مع رسول وأمره أن ينقل إليه رد الأرطبون ، فلما قرأ الأرطبون كتاب عمرو ضحك مما جاء فيه وقال إن صاحب فتح بيت المقدس هو رجل اسمه ( عمر ) . ونقل الرسول إلى عمرو ما سمعه من الأرطبون ، فعرف عمرو أن الرجل الذي يعنيه الأرطبون هو الخليفة. فكتب إلى الخليفة يخبره بما جاء على لسان الأرطبون أنه لا يفتح المدينة إلا هو ، ويستشيره قائلاً إني أعالج حرباً كؤوداً صدوماً وبلاداً ادخرت لك فرأيك ؟ . فخرج الخليفة بعد الاستشارة في مدد من الجند إلى الشام ، بعد أن استخلف على المدينة علي بن أبي طالب ونزل الجابية ، فجاءه أهل إيلياء فصالحوه على الجزية وفتحوها له . وكان مما عهد إليهم عمر بن الخطاب : أنهم آمنون على دمائهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم ألا تهدم ولا تسكن عليهم وأن يخرجوا منها الروم واللصوص . ثم كان فتح قيسارية بعد أن حاصرها معاوية والتوجه لفتح أرمينية لكنها استعصت عليهم وتأجل فتحها إلى عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان .

فتح مصر

الواقع أن فتح مصر أضحى ضرورة بعد فتح بلاد الشام ، وقد أثارت هذه البلاد اهتمام المسلمين الجدي بعد أن وقفوا على أوضاعها السياسية والاقتصادية والدينية المتردية تحت الاحتلال الروماني . ففي عصر الرسالة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثين إلى ملوك وأمراء الشرق الأدنى ، إلى كسرى وقيصر وملوك الحيرة وغسان وأمراء الجنوب وإلى المقوقس حاكم مصر ، يدعوهم إلى الإسلام . والملفت أن رد المقوقس كان لطيفاً بل أكثر الأجوبة مجاملة ، وقد بعث مع حاطب بن أبي بلتعة والذي حمل الرسالة إليه هدية عبارة عن كسوة وبغلة بسرجيها وجاريتين ومقداراً من المال وبعض خيرات مصر . وقد اصطفى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه إحدى الجاريتين وهي مارية القبطية ، فولدت له إبراهيم ، فرفعها إلى مقام زوجاته . وكان يقول : ” إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحما ” رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني . عاش أهل مصر الكثير من القلائل والاضطرابات تحت الحكم الروماني . وقاسى الأقباط جميع أنواع الشدائد مما كان له أثر في سهولة فتح المسلمين لمصر حيث وقف السكان بشكل عام على الحياد في الصراع الإسلامي – البيزنطي على مصر . عهد عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بقيادة الفتح والذي كان يعرف مصر جيداً لزيارته لها أيام الجاهلية . ووضع بتصرفه أربعة آلاف ، وسار عمرو بن العاص بجنده مخترقاً صحراء سيناء ومتخذاً الطريق الساحلي حتى وصل العريش ، واشتبك مع القوات البيزنطية في الفرما وحاصرها مدة شهر ثم انتصر عليها انتصاراً مؤزراً . ثم مضى إلى أم دنين وحاصرها . فكتب إلى الخليفة عمر يطلب منه المدد . فأرسل إليه الخليفة عمر اثني عشر ألفاً بقيادة الزبير بن العوام ، واستطاع عمرو بوصول هذا المدد أن يهزم قوات الروم في معركة عين شمس وعلى أثرها اقترب من حصن بابليون . فوصل عمرو بن العاص إلى حصن بابليون وبعث فرسانه فحاصرها  وأغاروا هنا وهناك من مشارف الدلتا ، حتى يئس من بقي من حامية الحصن أن تصل أمداد من بيزنطة فخارت عزائمهم ، وفي هذه الأثناء جاءت الأخبار بموت هرقل أثناء الحصار مما شد من عزائم المسلمين  وأوهن من عزائم الروم ، وبعد حصار دام سبعة أشهر ، صنع المسلمون سلماً عالياً غافلوا الروم وأسندوه إلى جدار الحصن ووهب الزبير بن العوام نفسه لله ، فصعد السلم إلى أعلى السور وتزاحم المسلمون من ورائه حتى كاد السلم أن ينكسر وكبروا من فوق السور ، تجلى في حادثة حصن بابليون أسلوب المباغتة في الحرب فبينما كان الروم المحاصرون في هذا الحصن مطمئنين إلى أن المسلمين لن يستطيعوا النيل منهم بفعل مناعة حصونهم وأسوارهم وما لديهم من ذخائر ومؤن ومعدات حربية وبسبب ما وضعوه من عوائق من الحسك الشائك على أبواب الحصن وفي الخندق الذي جفت مياهه بعد هبوط مياه النيل ، إذا بهم يفاجؤون في ليلة مظلمة بالزبير بن العوام ومجموعة من رجاله المقاتلين ، يعتلون السور مكبرين ويباغتونهم فيعملون السيف فيهم ، ويهزم من في الحصن من المدافعين فيطلبون الصلح والأمان ، ويدخل المسلمين فاتحين. وكان الروم يائسين من معركتهم من بادئ الأمر. فعقد الصلح مع أهل مصر من الأقباط ، وأما الروم من رعايا وجنود الإمبراطورية البيزنطية فوضعهم على الخيار بين المغادرة والدخول في الصلح ويصبح لهم ما للأقباط من حقوق وواجبات . كان هذا سنة 20 هـ . وكان بعد هذا الفتح المبين التحرك نحو الإسكندرية فسار المسلمون ومعهم رؤساء القبط الذين اطمأنوا إلى أن مصلحتهم باتت في الوقوف مع القوات الإسلامية ، فأصلحوا لهم الطرق ، وأقاموا لهم الجسور والأسواق ، وصارت لهم القبط أعواناً على ما أرادوا من قتال الروم . طال حصار الإسكندرية عدة شهور مما أثار حفيظة الخليفة عمر وأثار في نفسه الهواجس حول استعداد المسلمين للتضحية والمبادأة فكتب إلى عمرو بن العاص يستحثه وينصحه بإصلاح وصدق النية حتى فتح الله للمسلمين الإسكندرية بقيادة الصحابي عبادة بن الصامت كان هذا في رمضان سنة 21هـ . وجعل عمرو أهل الإسكندرية أهل ذمة كأهل بابليون وترك فيها حامية من الجيش الإسلامي بعد أن اطمأن إليها ونشر بقية كتائبه الباسلة لتفتح بقية حصون الروم وجيوبهم على الأراضي المصرية ، فاستكمل فتح ساحل البحر المتوسط ومدنه الكبرى مثل رشيد ودمياط وغيرها وكما بسط نفوذه على جميع دلتا مصر وصعيدها .

وكان عمرو قد أقام قبة إلى جوار حصن بابليون أثناء حصاره وسمى المسلمون الذين معه هذه القبة الفسطاط ، فلما فتحوا الحصن وقرر عمرو الزحف نحو الإسكندرية أمر بنزع هذا الفسطاط ، فإذا به يمام قد أفرخ فقال : ” لقد تحرم منا بمتحرم ، فأمر به فأقر كما هو ” حتى يطير الفراخ . وأوصى بها حاكم القصر ، فلما عاد من الإسكندرية بعد فتحها أمر جنوده أن ينزلوا عند الفسطاط وأن يختطوا دورهم فيها . ثم بناء المسجد الجامع الذي سمي فيما بعد جامع عمرو بن العاص . بعد ذلك كان فتح برقة ( تقع بين الإسكندرية وأفريقية ) ، وسار بعدها عمرو بن العاص من برقة إلى طرابلس الغرب ( ليبيا ) وكان مرفأ حصيناً فيه حامية بيزنطية قوية فحاصرها المسلمون واقتحموها من الجهة البحرية مما دب ذعر المدافعين عنها فحملوا ما استطاعوا من متاعهم وأسرعوا إلى السفن وأبحروا هاربين ، فدخل عمرو وجيشه إلى المدينة . وكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في الزحف إلى تونس وما وراءها من شمالي أفريقية ، فلم يأذن له ، ربما خشي عمر من تفرق المسلمين في بلاد واسعة ولما تثبت أقدامهم فيها .

مما يجدر لفت النظر إليه في أن بصمات الصحابة وجهادهم جليّ بيّن في كل المواقع والمواقف ، فلهم الجهد المشكور والمميز ، فقد كانوا دائماً هم العصب والعمود الفقري لأي جهد وفي أي موقع تكون بهم الصدمة ، ويكون على يديهم النصر ، وفي المواقف المصيرية كان التواجد في الصف الأول لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا عدنا إلى أي حدث مؤثر كانت له نتائج سابغة ، وجدنا المشاركة الفاعلة والطليعة المتقدمة والأعمال المتميزة ، وأصحاب أوسمة الشهادة هم أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين .

  وهكذا امتدت رقعة الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب حتى جاورت أفغانستان والصين شرقاً والأناضول وبحر قزوين شمالاً وتونس غرباً وبلاد النوبة جنوباً . قتل عمر فجأة بيد شخص مغمور لا يعرف الناس من أمره إلا أنه خادم للمغيرة بن شعبة، أما اسمه فهو فيروز أبو لؤلؤة المجوسي وهو فارسي الأصل من سبي نهاوند ، وكان قد شكا إلى الخليفة ثقل خراجه . كان ذلك في فجر الأربعاء لأربع بقين من شهر ذي الحجة سنة 23 هـ . وبهذا نكون قد أكملنا تفاصيل الفتوحات في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ولقاؤنا القادم مع المقال الثالث والأخير مع الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى