دراسات معاصرة

دولة الخلافة الراشدة (6)

اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بفتح أراضي الإمبراطورية الفارسية والأراضي البيزنطية في بلاد الشام ومصر وجزء من شمالي إفريقية ، وأضحت هذه المناطق تحت الحكم الإسلامي ، دولة مترامية الأطراف في وقت قياسي لا يزيد عن اثني عشر عاما . وفي مقالنا الأخير هذا نسلط الضوء على سلسلة الفتوحات في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان والذي دام حكمه من عام ( 23 – 35 ) هـ ، وتعد الفترة الأطول في عصر الخلفاء الراشدين.  

التصدي للثورات وإعادة الاستقرار:

استمرت الفتوحات وعمل المسلمون على توطيد نفوذهم من جديد في بعض المدن الفارسية التي ثارت ضد الحكم الإسلامي. وذلك أن المسلمين لم يستقروا تماماً في مناطق الأطراف ، ولم يوطدوا حكمهم فيها . فكانوا ينطلقون من الكوفة أو البصرة للفتح ثم يعودون إليها بعد أن يعقدوا الصلح مع السكان المحليين، ثم إن بعض هؤلاء ظلوا مخلصين لقوميتهم مما أتاح لهم القيام بثورات للتخلص من الحكم الإسلامي كلما سنحت لهم الفرصة ، وكان التغيير في مركز القيادة فرصة سانحة لهؤلاء لتحقيق أمانيهم . وتصدى المسلمون لهذه الثورات على حكمهم ، وتمكنوا من إخمادها وثبتوا أقدامهم في تلك المناطق نذكر منها : همذان وأذربيجان والري وطبرستان وغيرها.

كما أعاد المسلمون فتح مدينة الإسكندرية في عام 25 هـ في عهد ولاية عبد الله بن سعد بن أبي السرح، بعد أن هاجمها البيزنطيون انطلاقاً من جزيرة رودس بهدف استعادتها . وقد فاجأ هؤلاء الحامية الإسلامية ونزلوا على البر واستولوا عليها وتوغلوا في أرض مصر حتى كادوا يصلون إلى بابليون، ولم ينقذ الموقف سوى عمرو بن العاص الذي عينه الخليفة والياً على الإسكندرية وأمره بطرد البيزنطيين منها . ودمر عمرو أسوار الاسكندرية بعد أن أعادها لحكم المسلمين حتى لا يتحصن البيزنطيين فيها مرة أخرى .

فتح أرمينيا وما جاورها :

في مستهل خلافة عثمان بن عفان رأى من الأهمية بمكان أن يقوم بتأمين حدود دولة الخلافة الراشدة من الناحية الشمالية . والاستمرار بإضعاف الإمبراطورية البيزنطية التي رغم اندحارها من بلاد الشام لا تزال تواصل هجومها على سواحلها ومناطق الثغور فيها ، مما دعا الخليفة إلى تكليف أمير الشام معاوية بن أبي سفيان بتوجيه حبيب بن مسلمة لفتح أرمينيا . الذي كان يمتاز بمقدرة وكفاءة قيادية في مجال منازلة العدو ، وسار بجيشه إلى قاليقلا التي كانت المركز الإداري للروم في أرمينيا فضرب عليها الحصار ، فلما علم أهلها خرجوا لقتال المسلمين فدارت رحى معركة ضارية بين الفريقين انتهت بهزيمة قاليقلا ، الذين وجدوا أنفسهم يطلبون الصلح والأمان مع المسلمين . حينما علم الحاكم البيزنطي بانتصارات الجيش الإسلامي على أهل قاليقلا ، أخذ يجمع أعداداً كبيرة من الجيوش . قدرها الطبري في تاريخه بثمانين ألف مقاتل من الخزر وملطية وسبواسي وقونية . فلما بلغت الأنباء إلى القائد الإسلامي حبيب بن مسلمة ، كاتب أمير الشام معاوية بن أبي سفيان ، فلما وصل الكتاب بعث إليه معاوية بألفي مقاتل أسكنهم حبيب في قاليقلا وأقطعهم القطائع وجعلهم مرابطة لحمايتها .ثم كتب معاوية إلى الخليفة عثمان بن عفان موضحاً له أحداث المسرح السياسي على أرض الجهاد ، والذي كان على اتصال دائم بحركات الفتح على ساحات القتال ، بل كان رضي الله عنه يشرف عليها بنفسه ، ولعل الخطاب الذي وجهه إلى الوليد بن عقبة في الكوفة لنجدة أهل الشام في حربهم مع الروم الذي يقودها المورديان ( اسم بطريق أرميناقس ) خير شاهد على ذلك . ذكر ابن جرير في تاريخه .. ” وفي هذه السنة جاشت الروم حتى خافت أهل الشام وبعثوا إلى عثمان يستمدونه فكتب إلى الوليد بن عقبة أن إذا جاءك كتابي هذا فابعث رجلاً أميناً كريماً شجاعاً في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إلى إخوانكم بالشام . فقام الوليد بن عقبة في الناس خطيباً حين وصل إليه كتاب عثمان فأخبرهم بما أمره به أمير المؤمنين، وندب الناس وحثهم على الجهاد ومعاونة معاوية وأهل الشام ، وأمّر سلمان بن ربيعة على الناس الذين يخرجون إلى الشام فانتدب في ثلاثة أيام ثمانية آلاف فبعثهم إلى الشام وعلى جند المسلمين حبيب بن مسلمة فلما اجتمع الجيشان شنوا الغارات على بلاد الروم فغنموا وسبوا شيئاً كثيراً وفتحوا حصوناً ولله الحمد .. ” فتح المسلمون خلال ذلك مناطق للمرة الثانية وأعادوا إليها الهدوء والاستقرار ، واستطاعوا فتح مناطق شاسعة من أرمينيا لأول مرة.

إعادة فتح طرابلس الغرب للمرة الثانية:

بعد انضمام قوات عقبة بن نافع إلى المسلمين في برقة ، وصلت جحافل المسلمين إلى طرابلس بقيادة عبد الله بن أبي السرح ، وانضم إلى الجيش الإسلامي عدد لا بأس فيه من البربر الذين دخلوا في الإسلام وحسن إسلامهم وكانوا أداة قوة مع بقية الجيش الإسلامي الذي استطاع إعادة فتح طرابلس للمرة الثانية في عام 26 هـ.

فتح النوبة:

 وكان ذلك سنة 31 هـ بعد معارك شرسة عقد بينهم صلحاً يضمن لهم استقلال بلادهم كما يحقق للمسلمين الاطمئنان إلى حدودهم الجنوبية ويفتح النوبة للتجارة . وقد اختلط المسلمون بالنوبة واعتنق كثير منهم الإسلام.

فتح تونس:

دخل المسلمون إفريقية بقيادة عبد الله بن أبي السرح الذي أخذ يبعث طلائع جيشه بالقرب من الأماكن التي يتوقع أن يتحصن فيها العدو ، حتى اهتدى إلى الطريق الموصل إلى المركز الإداري للحاكم البيزنطي في إفريقية وهي ( سبيطلة ) ، بعدها بدأت المراسلات بين قائد المسلمين وقائد الروم ويدعى ( جرجيوس ) الذي استحوذ عليه الشيطان فاغتر بجيشه وهم من سكان البلاد الأصليين ( البربر ) المغلوب على أمرهم والذي بلغ تعداده 120 ألف مقاتل ورفض الصلح . وصف ابن كثير في البداية والنهاية وقعة جرجير وفتح سبيطلة وما بعدها في قوله  ” … لما قصد المسلمون وهم عشرون ألف إفريقية وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح وفي جيشه عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، صمد إليهم ملك البربر جرجير في عشرين ومائة ألف وقيل في مائتي ألف . فلما تراءى الجمعان أمر جيشه فأحاطوا بالمسلمين هالة ، فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه ولا أخوف عليهم منه ، قال عبد الله بن الزبير : فنظرت إلى الملك جرجير من وراء الصفوف وهو راكب على برذون وجاريتان تظلانه بريش الطواويس ، فذهبت إلى عبد الله بن أبي السرح فسألته أن يبعث معي من يحمي ظهري وأقصد الملك ، فجهز معي جماعة من الشجعان ، قال : فأمر بهم فحموا ظهري وذهبت حتى فرقت الصفوف إليه وهم يظنون أني في رسالة إلى الملك ، فلما اقتربت منه أحس مني الشر ففر على برذونه فلحقته فطعنته برمحي وذففت عليه بسيفي ، وأخذت رأسه فنصبته على رأس الرمح وكبرت ، فلما رأى البربر ذلك فرقوا وفروا كفرار القطا ، وأتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون فغنموا غنائم جمة وأموالاً كثيرة ، وسبياً عظيماً وذلك ببلد يقال له سبيطلة – على يومين من القيروان – فكان أول موقف اشتهر فيه عبد الله بن الزبير ”  البداية والنهاية ج 8 ، ص 59

استعادة مدن الساحل الشامي:

بعد استشهاد الخليفة عمر بن الخطاب تجرأ الروم البيزنطيين وقاموا باستعادة بعض مدن الساحل الشامي . لكن الخليفة عثمان ابن عفان عند مستهل خلافته وجه والي الشام معاوية بن أبي سفيان لإعادة الأمور إلى زمامها ، فبعث معاوية كتيبة من الجند بقيادة سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابلس وضرب حصاراً من البر والبحر وذلك من خلال الجزر المتناثرة قبالة ساحل طرابلس  وقطع على أهلها الميرة ثم بنى حصناً بالقرب منها سمي حصن سفيان.

نشأة الأسطول البحري الإسلامي:

عندما انطلق المسلمون لفتح بلاد الشام ضم عمرو بن العاص في مستهل فتوحاته في عهد عمر بن الخطاب موانئ غزة هاشم وعسقلان وعكا سنة 15 هـ ثم استولى يزيد بن أبي سفيان والي الشام للخليفة عمر بن الخطاب على صيدا وصور وبيروت وجبيل وعرقة سنة 17 هـ ، ثم قام عبادة بن الصامت بأمر يزيد بضم اللاذقية وجبالة ثم بنى عمرو بن العاص فاتح مصر الفسطاط وهي أول عواصم مصر الإسلامية على النيل مباشرة ، وغدت الفسطاط مركزاً تجارياً هاماً إذ كانت على اتصال دائم بباقي أجزاء مصر ، وبعد تزايد اهتمام المسلمين بسواحل البحر الأحمر عن المتوسط . فقد امتثل عمرو بن العاص لأوامر الخليفة عمر بن الخطاب بإعادة حفر قناة تراجان والتي أعاد المسلمون حفرها وتطويرها ، لأنها تربط نهر النيل بميناء القزم التاريخي على خليج السويس ، ومن ثم تمكين نقل السلع وبعض المنتوجات الإفريقية من مصر إلى الحجاز . وكان معاوية قد ألح على عمر بن الخطاب في غزو البحر لقرب الروم من حمص لكنه لم يأذن له . ولما ولي عثمان الخلافة كتب إليه معاوية بستأذن في غزو البحر فوافق عثمان على طلبه ، وكتب إليه : ” لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم ، خيرهم فمن اختار الغزو طائعاً فاحمله وأعنه ” فاختار الغزو جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر وأبو الدرداء وشداد بن أوس وعبادة بن الصامت وزوجه أم حرام بنت ملحان والتي بشرها الرسول صلى الله عليه وسلم بركوب البحر . وبنى معاوية سفن الأسطول الإسلامي بدار الصناعة في عكا وقدرت بمائتين وعشرين سفينة . ثم استعمل عليهم عبد الله بن قيس وساروا إلى قبرص وجاء عبد الله بن أبي السرح من مصر فاجتمعوا عليها وصالحهم أهلها على سبعة آلاف دينار كل سنة .

معركة ذات الصواري البحرية :

ذكر المؤخرون في المصادر العربية والأجنبية أسباباً مختلفة لمعركة ذات الصواري البحرية ونذكر منها:

  • إجهاض قوة البحرية الإسلامية النامية ، ويظهر أن النشاط المتزايد من قبل المسلمين أخاف بيزنطة حتى أن الإمبراطور قنسطاتز الثاني جمع عدداً من المراكب لم يجمعها من قبل تزيد على ألف مركب وسار بها بقصد ملاقاة أسطول المسلمين أو بقصد احتلال الإسكندرية ، فخرجت أساطيل المسلمين بقيادة عبد الله بن أبي السرح وقدرت بمائتين .
  • كما أن بناء الأسطول الإسلامي أشعر بيزنطة بتدابير المسلمين لغزو القسطنطينية ومحاصرتها .

كانت الإدارة السليمة والاستثمار الأمثل للقدرات المتاحة السبب الرئيس في انتصار المسلمين في معركة ذات الصواري ، حيث أن الأسطول الإسلامي أسطول ناشئ لا يزيد عمره على بضع سنوات ورجاله حديثو عهد بركوب البحر فضلاً عن القتال فيه ولا يتعدى عدد سفنهم المائتين إلا قليلاً . في حين أن الأسطول البيزنطي أسطول عريق له السيادة على البحر ، وله تاريخ طويل في العمليات البحرية وعدد سفنه يزيد على ثلاثة أضعاف عدد سفن المسلمين . أجرى المسلمون اتصالاً مع البيزنطيين قبل بدء القتال وعرضوا عليهم أن يكون القتال على الساحل وإن شاءوا في البحر ، ففضلوا القتال في الماء لثقتهم بقدرتهم القتالية في البحر من جهة ، ونظرتهم إلى المسلمين على أنهم بدو يجيدون ركوب الجمال والقتال في البر من جهة أخرى . ونفذ الإمبراطور البيزنطي الذي قاد المعركة بنفسه خطة لإنهاك المسلمين بأن دفعهم لرمي البيزنطيين بالسهام حتى نفذت ذخيرتهم ، عند ذلك اطمأن الإمبراطور على سلامة وضعه العسكري ، وظن أن الانتصار بات من نصيبه لكن المسلمين غيروا خطة القتال عندما نفذت ذخيرتهم ، فربطوا سفنهم إلى بعضها واصطفوا على ظهورها متسلحين بالسيوف والخناجر . وقذفوا السفن البيزنطية بالخطاطيف والكلاليب وجذبوها إليهم وبذلك تحولت ظهور السفن إلى ميدان قتال ، فحولوا المعركة البحرية إلى معركة أقرب إلى المعارك البرية . وأمام هذا التغيير السريع والمفاجئ في سير المعركة ، ارتبكت القيادة البيزنطية وفقدت السيطرة بل أيقن الإمبراطور حينئذ بأن الهزيمة ستحل بقواته من واقع أن المسلمين أكثر ثباتاً في قتال من هذا النوع . استغل المسلمون تضعضع القوة الميدانية للبحرية البيزنطية ، والفوضى التي بدت في صفوف البيزنطيين حيث كانوا يقاتلون على غير صفوف . فوثبوا إلى السفن البيزنطية وقاتلوا البيزنطيين قتالاً شديداً ، وانتصروا عليهم . وأصيب الإمبراطور بجراح وفر من مكان المعركة.

تعد هذه المعركة من المعارك الحاسمة في التاريخ ، لأنها حولت العلاقات الإسلامية – البيزنطية نحو اتجاه جديد في الحوض الشرقي للبحر المتوسط ، إذ أنها غدت المدخل الذي أطل منه المسلمون على العالم الوسيط كقوة بحرية منافسة في المنطقة . كما تخلت الإمبراطورية البيزنطية عن فكرة طرد المسلمين عن الأراضي التي فتحوها في شرقي البحر المتوسط ، والاكتفاء بتأمين الدفاع عن الأراضي البيزنطية في الجهة الجنوبية من آسيا الصغرى .

الخاتمة:

وبهذا نختم بمقالنا هذا موضوع الفتوحات الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين . والتي توقفت في أواخر عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان وفي عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب بسبب ظروف الفتنة الداخلية بين المسلمين بعد مقتل عثمان بن عفان مظلوماً بيد نفر من المارقين والمنافقين عام 35 هـ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى