دراسات معاصرة

دولة الخلافة الراشدة (7)

نناقش في هذه الحلقة من تاريخ الخلفاء الراشدين الجانب الحضاري والإداري في هذ الفترة، والتي يغفل عنها الكثير، فيكون جل اهتمامهم اذا درسوا هذه الحقبة بالتركيز على الجانب السياسي أو العسكري فقط.
وقد تميزت فترة الخلافة الراشدة بمجموعة فريدة من السمات المميزة، والتي نناقشها ان شاء الله في هذه المقالة.
أولا: قامت دولة الخلافة – ولعل هذا أبرز ما يميزها عن غيرها من الدول – بالالتزام الكامل بالكتاب والسنة، وهذا معلم لا تخطئه العين خلال دراسة هذه الدولة، فمنذ اليوم الأول، يجعل أبو بكر في خطبته طاعة الله ورسوله شرطا لطاعته، وعلى مدى ثلاثين سنة من حكمهم، كان هذا دأب خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم. ويرسل أبو بكر جيش أسامة لقتال الروم استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن كل المعطيات تنصح بعدم ارسال الجيش. وخوفا من نقص الدين، أو تغير ما كان على عهد النبي اتفق الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وحرصا على القرآن ووحدة المسلمين جمع المصحف في عهد أبي بكر وعثمان.
قد يعترض البعض ببعض الحوادث ليدلل على أن الصحابة لم يعملوا بالنص الشرعي بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، بل قدموا العمل بالمصلحة عند التعارض، ويستدلوا بمسائل منها، منع عمر سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وايقاف حد السرقة في عام الرمادة، وعدم تقسيم أرض العراق على المقاتلين، وعدم أخذ الجزية من نصارى تغلب. وهذه ادعاءات ضعيفة، ولننظر الآن إلى نص الرواية الأولى (جاء عيينة بن حصين والأقرع بن حابس إلى أبي بكر- رضي الله عنه- فقالا: يا خليفة رسول الله، إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعناها. قال فأقطعها إياهما وكتب لهما عليه كتابا ، وأشهد عمر وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر ليشهداه، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل فيه فمحاه، فتذمرا وقالا له مقالة سيئة فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يتألفاكما والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما لا أرعى الله عليكما إن أرعيتما ثم أتى أبا بكر فقال له: أكُلَّ المسلمين رضوا بهذا؟ فقال له أبو بكر رضي الله عنه: وقد قلت أنك أقوى على هذا الأمر مني) وهذا الحديث لم يرو بسند متصل إلى عمر، وحتى لو صح فإن عمر لم يلغ سهم المؤلفة قلوبهم، بل منع بعض من أخذ هذا السهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم منه في عهد أبي بكر، ولذلك لأن صفة المؤلف قلبه لا تبقى مع الإنسان أبد الدهر، بل بحسب حاجة المسلمين وظروفهم، وحاجتهم إليه، ألا ترى أن الفقير اذا اغتنى، منعت عنه الزكاة، وابن السبيل إذا عاد لأهله منع من الزكاة، وكذا غيره من الأصناف، فالحكم لم يلغ، ولكن منع بعض من أخذ هذا السهم لتغير حاله. وكذا يقال في عام الرمادة، فهذه الحادثة ثابتة تاريخيا، وان لم يأت حديث صحيح يبين أن عمر قد ترك إقامة الحدود في هذا العام، وكذا يقال عن رواية عدم إقامة الحد على غلمان حاطب بن أبي بلتعة، فكلها لم تصح، وإذا تجاوزنا بها، فلنتجاوز إذا بخبر (ادرؤوا الحدود بالشبهات) والجوع والحاجة الشديدة من الشبهة، وكذلك خبر (لاتقطع الأيدي في الغزو)، فهو ليس ترك للنص، بل اجتهاد في إعمال نص مقابل نص آخر. أما بالنسبة لتقسيم أرض العراق، فقد روي أن عمر كتب إلى سعد حين افتتح العراق: (أما بعد: فقد بلغني كتابك تذكر أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس به عليك إلى العسكر من كراع أو مال، فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأراضين والأنهار لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بقي بعدهم شيء). بل روى البخاري في صحيحه عن عمر أنه قال: (أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس ببانا ليس لهم شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها)، وكان هذا بعد رجوعه لآيات سورة الحشر التي تحدثت عن الفىء، والأرض التي فتحت صلحا، وكثير من مدن العراق والشام قد فتحت صلحا، وقال عمر رضي الله عنه: (ما من أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب، إلا العبيد لهم فيه شيء، وقرأ: (ما أفاء الله) [الحشر: 7] حتى بلغ: (والذين جاءوا من بعدهم) [الحشر: 10]، فقال: هذه استوعبت المسلمين). فترك عمر النص لنص آخر، وعمل بمبدأ الفيء مع الأراضي المفتوحة. أما نصارى تغلب، فلم يصح أن عمر أسقط عنهم الجزية أو غير اسمها، بل الثابت أنه فرض عليهم ضعف غيرهم، ولا تترك الروايات الصحيحة الثابتة، لروايات ضعيفة.
ثانيا: قامت الخلافة الراشدة على اختيار الأفضل من بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القرشيين، وقد مر معنا هذا سابقا. وكانوا يختارون خيار الصحابة للولاية وقيادة الجيوش، وكانوا يتابعون أحوالهم ويتشددون معهم لكي لا يقع ظلم على الناس.
ثالثا: فعّل الخلفاء الراشدون الشورى، فتشاوروا في اختيار الخلفاء، وقتال المرتدين، وجمع المصحف، وقتال الفرس والروم، وتشاوروا في تقسيم أرض العراق والشام، وكان لهم مجالس من كبار الصحابة يتشاورون معهم في مصالح الناس والسلم والحرب وتوزيع الغنائم. نعم لم يكن هناك مجلس دائم، وأعضاء محددون، ولم يكن هناك تقنين لعملية الشورى، ولكن لا يحق لنا أن نحاكم القوم على آخر ما توصلنا له في شؤون الإدارة، بل حسبهم في هذه المرحلة المتقدمة من تاريخ البشرية أن يسنوا لنا مبدأ الشورى، ومشاركة أهل الرأي بل والعامة في اتخاذ القرارات المهمة للأمة.
رابعا: اتباعا لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم السابقة، أقام الخلفاء الولاة على المدن والأمصار، وبنوا مدنا جديدة مثل البصرة والكوفة والفسطاط وغيرها، وأقاموا في مدن سابقة مثل صنعاء و دمشق وحمص وحلب، وكان الولاة يعينون من خيرة الصحابة، وخيرة الناس من بعدهم ممن عرف بالصلاح والقوة، وكان الولاة يقومون بالحكم بين الناس وتنظيم الجهاد وجمع الزكاة والجزية والخراج وتوزيعها على الناس، وبناء المساجد والأسواق واحياء الأراضي وتعبيد الطرق واقامة الجسور، وبعضهم كان يتولى القضاء، وبعضهم الآخر يعاونه قاضي معين من الخليفة أو من قبله، وكان الخلفاء يتابعون الولاة، ويستبدلونهم، ويحاسبونهم على أخطائهم. وكان يساعد الولاة موظفون آخرون مثل القاضي والكاتب والحاجب وصاحب بيت المال وصاحب الشرطة، وظهر المحتسب الذي يراقب أعمال السوق، وكذلك عمال الصدقات الذين يجمعون الزكاة، وعمال الخراج، وكان هناك العرفاء والنقباء على القبائل والعائلات، وكانوا يساعدون الوالي في ضبط المجتمع ومعرفة آراء الناس وتمثيلهم أمام الوالي.
خامسا: مارس الخلفاء القضاء في المدينة، وربما عينوا بعض علماء الصحابة في هذا المنصب، وعينوا القضاة في الأمصار، بل فصلوها أحيانا عن الوالي، وكان الولاة يولون القضاة كذلك في ولاياتهم. وكان القاضي يحكم في جميع الخصومات، أما القصاص والحدود، فكان لا بد من تصديق الخلفاء وأمراء الأمصار عليها، ثم انحصرت الموافقة على تنفيذ القتل بالخليفة وحده. وقد كانت الخصومات قليلة بين الناس، فهذا عمر مكث سنة قاضيا لأبي بكر ولم يأته أحد، ومكث أبو وائل أربعين يوما لا يجد خصماء عند قاضي الكوفة. وكان الخلفاء أنفسهم يخضعون لأحكام القضاة، كما احتكم عمر وخصمه للقاضي زيد بن ثابت والقاضي شريح، وكذا فعل علي بن أبي طالب، فحكم شريح لخصمه.
سادسا: عدل الخلفاء الراشدون في حكمهم، وكيف لا وهم يحكمون بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبدأ أبو بكر خلافته بوضع قاعدة العدل وعدم التفريق بين الغني والفقير والقوي والضعيف، وقال عمر لواليه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وعدل الخلفاء مع أنفسهم وأقاربهم وولاتهم، حتى قال رسول الفرس لما رأى عمر نائما في ظل شجرة: عدلت فأمنت فنمت. وكان عدل المسلمين من أكبر أسباب دخول الناس في دين الله أفواجا، بعدما عانوا قرونا من ظلم الفرس والروم.
سابعا: أقام الخلفاء الراشدون مراكز علمية في المدن الرئيسية مثل مكة والمدينة والبصرة والكوفة ودمشق والفسطاط، وكان للصحابة في هذه المدن مدارس كبرى تخرج منها كبار التابعين، ثم أصبحت نواة للمذاهب الإسلامية، كمدرسة ابن عباس في مكة، وابن عمر في المدينة، وابن مسعود وأبو موسى الأشعري في العراق، ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء في الشام، وقد اهتموا بجمع القرآن وتعليمه للناس ونشر عثمان المصاحف في الأمصار وجمعهم على قراءة قريش منعا للخلاف، وكتب بعضهم الأحاديث، وإن كان بشكل فردي، وقاموا بدعوة الناس للإسلام وتربيتهم عليه، وبأمر من علي دوّن أبو الأسود الدؤلي قواعد النحو وتشكيل المصحف.
ثامنا: تنوعت مصادر الدخل لدولة الخلافة الراشدة، فأولها كانت الزكاة، فكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، قام الولاة بجمع زكاة الناس في ولاياتهم وانفاقها على فقراء البلد، فإن زاد شيء دفع لبيت المال في المدينة، أما في عهد عثمان، فقد سمح للناس بدفع زكاة المال بأنفسهم للفقراء، وأبقى على جمع زكاة الزروع والحيوان. وكذلك أخذوا ضريبة العشر على التجار الأجانب، وكانت تؤخذ مرة واحدة في السنة، حتى لو تكرر دخوله وخروجه، وربما انقصوها لنصف العشر اذا كانوا يحتاجون تجارته. وفرضوا الجزية على غير المسلمين في البلاد المفتوحة، مقابل حمايتهم، والتي كانت في أقصاها أربعة دنانير في السنة على الرجل المكتسب، وتفاوت مقدار الجزية بحسب طبيعة البلد وغناها، وما إذا كانت فتحت سلما أو حربا، وما إذا التزمت بالعهد أم سبق ونقضته، وهي أقل بكثير مما كان يدفعه المسلمون في الزكاة، وكانت تسقط الجزية عن الرجل في حال إسلامه أو عجزه عن العمل. وبعد فتح العراق والشام، لم يقسم عمر الأرض على الفاتحين، بل أبقاها بيد أصحابها إن قاموا بزراعتها مقابل دفع الخراج للمسلمين، وذلك لأنهم أكثر خبرة من العرب في شؤون الزراعة، ولكي لا ينشغل المسلمون بها عن الجهاد، ولكي يبقَ ريع هذه الأراضي لعموم الأجيال القادمة من المسلمين. وكانت الأرض تبقى خراجية حتى لو أسلم صاحبها أو انتقل ملكها لمسلم لأنها ضريبة على الأرض نفسها بخلاف الجزية فقد كانت ضريبة على الفرد. وقد قدر دخل الدولة الإسلامية في عهد عمر من الجزية والخراج بــــ 220 مليون درهم من مختلف الأقاليم، وزادت عن ذلك في عهد عثمان لدخول المزيد من البلاد تحت حكم المسلمين. وكانت الغنائم في الحروب من أموال الملوك والمقاتلين والخيول والدواب التي أخذت منهم عنوة في الحرب من المصادر المهمة كذلك لخزينة الدولة وللمقاتلين، وقد قدرت غلة أراضي كسرى 7 ملايين درهم أدارها بيت مال المسلمين وأنفقها في حوائج الناس.
تاسعا: وقد أنفق الخلفاء الزكاة في مصارفها الشرعية، وقد جعل أبو بكر سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الفىء تحت وصاية الخليفة ينفقه على سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وقد توسع في سهم (في سبيل الله) لدعم الفتوح، أما عمر فتوقف عن دفع سهم (المؤلفة قلوبهم) لعدم حاجة المسلمين له، وجعله في الجهاد. أما مداخيل الغنائم والفىء، فقد كان أبو بكر ينفقها مباشرة على المسلمين، كما كان الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا كان الحال صدر خلافة عمر، ولكن لما كثرت الأموال، أنشأ عمر بيوت المال في المدينة والأمصار، وأنشأ ديوان العطاء، حيث أحصي الناس والأملاك والأراضي، وجعل للناس راتبا سنويا منه، ويتفاوت بحسب السابقة للإسلام والهجرة، وكان أكبر سهم لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ثم أزواجه، وكان العطاء يتراوح بين 2 و 10 آلاف درهم سنويا، ثم عدل عمر عن ذلك فساوى بين الجميع في العطاء مع اعطاء الأعزب نصف عطاء المتزوج، وجعل لكل مولود 100 درهم عند ولادته. أما راتب الخليفة والوالي والعمال فكان كفافا كأحد عامة المسلمين . وكذلك كانت توزع على الرعية المواد العينية من ثياب وأنعام وغيرها. وقد فاض المال واغتنى الناس وارتفعت الأسعار لكثرة المال في أيدي الناس.
عاشرا: قام الخلفاء باقطاع الأراضي الموات للراغب في استصلاحها وزراعتها، على أن تنزع منه بعد ثلاث سنين إن لم يقم بالاستصلاح. وقد توسع عثمان في سياسة اقطاع الأراضي التي فر أصحابها من الفتح وأصبحت موات، حيث ارتفعت غلتها من 9 آلاف درهم في زمن عمر إلى 50 مليون درهم أيام عثمان.وكذلك أقام الخلفاء الحمى، وهي أراض مخصصة لإبل الصدقة أو الخيل المعدة للجهاد، واتسع نطاقها مع الوقت. واهتموا بعمارة المسجد النبوي، فجدده أبو بكر ووسعه عمر وعثمان وبنوه بالحجارة، وكذلك وسعوا في المسجد الحرام، وبنوا المسجد الجامع في البصرة والكوفة والفسطاط لتكون محلا لصلاة المسلمين وتعلمهم وتواصلهم مع الولاة ورسل الخليفة، وكانت المساجد تبنى في مركز المدينة، ثم دار الإمارة، وبيت المال والسوق، ثم تحدد لكل قبيلة منطقتها الخاصة. وقد بنى عتبة بن غزوان البصرة، وبنى سعد بن أبي وقاص الكوفة، وبنى عمرو بن العاص الفسطاط في مصر، وأصبحت هذه المدن من أكبر حواضر المسلمين. وقد حفر المسلمون قناة عظيمة توصل البصرة بنهر دجلة، وكذلك حفروا قناة تصل نهر النيل بالبحر الأحمر، وسارت فيه السفن ونقلت البضائع لموانىء الحجاز، وبنوا سدين لمنع السيول من الوصول للكعبة، وأقاموا استراحات على طرق الحج، توفر الماء والظل، وابتنى عمر مخازن لحفظ الدقيق والتمر وغيرهما لوقت الحاجة.
أحد عشر: كان عهد أبي بكر امتداد لعصر النبوة، ولم يكن هنالك تغييرات تذكر، وكذا صدراً من عهد عمر، ولكن تغيرت الأحوال، فزاد عدد الرعية من مسلمين وأهل ذمة، وتوسعت الفتوح وزاد عدد الجنود، وتعددت مصادر دخل الدولة ومصارفها، فكان لا بد من تطوير أساليب الإدارة لتواكب هذه التطورات، فأنشأ عمر ديوان الجند، وسجلت فيه أسماء المقاتلين وفترات غيابهم وأعطياتهم وأماكن جهادهم، وأنشأ ديوان العطاء وسجلت فيه أسماء الرعية وأعطياتهم من الدولة، وأنشأ ديوان الخراج وسجلت فيه الأراضي الخراجية ومقدار ما يأخذ منها كل عام، وزاد عدد موظفي الدولة وتنوعت وظائفهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى