محكمات

القياس

يسأل سائل فيقول: كيف يكون الإسلام صالحا ومصلحا لكل زمان ومكان، ونصوص الكتاب والسنة محدودة، في حين أن الحوادث والمستجدات لا تتوقف، ولا حصر لها؟
فنقول: إن الجواب في معرفة دلالات النصوص وعموماتها ومقاصدها وعللها وفي القياس عليها، كما قال عمر بن الخطاب في كتابه لأبي موسى الأشعري: “ثُمَّ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فَمَا أَدْلَى إلَيْك مِمَّا وَرَدَ عَلَيْك مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ ، ثُمَّ قَايِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَاعْرِفْ الْأَمْثَالَ ، ثُمَّ اعْمِدْ فِيمَا تَرَى إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ “
فالقياس مثال على شمول الإسلام وصلاحه

فما هو القياس، وما هي أهميته، وما دليله، وما أقسامه، وما هي منزلته بين الأدلة الشرعية؟
هذا ما سنحاول أن نجيب عنه فيما يلي.
القياس في اللغة: تقدير شيء بشيء، وهو أيضاً مقارنة شيء بغيره.
أما اصطلاحاً: فهو حمل فرع على أصل في حكم لعلة جامعة بينهما.
أي تسوية الحكم الشرعي لواقعة لم يرد نص بحكمها، بواقعة أخرى ورد النص بحكمها لاشتراك الواقعتين في علة الحكم.
ويُعَدُّ القياس عند العلماء من مصادر التشريع لأنه كاشفٌ للحكم الشرعي ومظهرٌ له من الكتاب أو السنة، بالاجتهاد، وكان العلماء يستخدمون القياس بداهة، لأن تماثل حكم المتشابهات من بدهيات العقول، حتى توسع البعض فيه، وأساؤوا وأصبح أداة لمعارضة بعض النصوص الشرعية، فقام الإمام الشافعي رحمه الله بتأليف كتابه الرسالة في أصول الفقه، ووضع فيه القواعد الضابطة للاستعمال الصحيح للقياس.
أركان القياس (وهي أربعة):
أولاً: (الأصل): ويسمى: بالمقيس عليه: وهو الذي جاء نص شرعي بحكمه.
ثانياً: (حكم الأصل): وهو الحكم الشرعي الذي ورد به النص.
ثالثاً: (الفرع): ويسمى بالمقيس: وهو ما لم يرد نص بحكمه.
رابعاً: (العلة) وهي الوصف الموجود في الأصل والذي من أجله شرع الحكم، وهو موجود في الفرع كذلك.
مثال القياس:
لا يجوز الاستئجار أو الرهن أو النكاح وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة قياساً على عدم جواز البيع يوم الجمعة الذي ورد فيه النص وهو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)، وذلك لوجود العلة التي في البيع، في الاستئجار والرهن والنكاح وهي الانشغال عن الصلاة واحتمال فواتها.
أقسام القياس:
قسم العلماء القياس إلى أقسام بعدة اعتبارات نذكر منها:
أولاً: القياس باعتبار قوته و ينقسم إلى:
القياس الجليّ : هو ما كانت العلة فيه واضحة أو معلومة بالنص أو الإجماع؛ من غير حاجةٍ إلى بحث ونظر، ومثال ذلك قياس ضرب الوالدين على التأفيف، فإن التأفيف “الأصل”، “والضرب” الفرع، وكُلاهما فعلان محرّمان، والعلة التي تجمعهما هي الإيذاء، وهي واضحة جليّة في هذا القياس.
القياس الخفيّ : هو ما لا تظهر علته إلا بإعمال الفكر والاستنباط والنظر؛ لأنَّ في معناه شيءٌ من الغموض، والعلة في هذا القياس مستنبطة غير ظاهرة جليّة، وقد يختلف العلماء في تقديرها. كقياس الأرز على القمح في تحريم ربا الفضل، فقد جاء الحديث بتحريم ربا الفضل في القمح، وقدر العلماء أن سبب التحريم أنه قوت وأنه يوزن ويكال ويدخر، وهذا اجتهاد منهم، ويشترك معه الأرز في هذه العلل، فيكون حكمه مثل حكم القمح.

ثانيا من حيث اتجاهه:
قياس الطرد: وهو اطِّراد العِلَّة في أي زمان ومكان، مثلًا إهلاك الله تعالى لعاد: ﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴾ فقد أهلكهم الله تعالى لعِلَّة معصيتهم له، وكُفْرهم بآياته، فهذه عِلَّة مُطَّرِدة؛ أي: إن وجود قوم كفروا بآيات الله، وعصوا الله، فلا يُجلب لهم إلا هذا الحكم الذي هو الهلاك عاجلًا أم آجلًا؛ لذلك سُمِّي بقياس الطرد؛ يعني: أن الحكم يطَّرِد باطِّراد العِلَّة.
وقياس العكس: هو القياس الذي فيه إثبات عكس حكم الأصل للفرع؛ لأنَّهما افترقا واختلفا في العلة، فعلّة الفرع عكس علة الأصل، ومثال ذلك ما جاء في حديثه -صلى الله عليه وسلم- (أنه سُئل: أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ فقال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟ قالوا : بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان له فيها أجرٌ)

ثالثاً: القياس باعتبار صحته وبطلانه ينقسم إلى:
القياس الصحيح: وهو الجمع بين المتماثلين وعلة الأصل موجودة في الفرع من غير معارض يمنع حكمها، كالأمثلة السابقة.
القياس الباطل: وهو كل قياس في مقابل النص أو ما دل النص أو الإجماع على بطلانه، كقياس المرابين لمّا قالوا: (إنما البيع مثل الربا)
شروط القياس
لصحة القياس واعتباره شرعًا يجب أن تتوافر به مجموعة من الشروط، ومنها:
(1) أن يكون حكم الأصل ثابتا بنص أو إجماع.
(2) أن كون العلة مناسبة للحكم.
(3) أن توجد العلة في الفرع.
(4) أن لا يمنع من القياس مانع، كوجود نص آخر يعطي حكما مختلفا للفرع.

حجية القياس
يعد القياس عند جمهور الفقهاء حجة شرعية، ومصدر التلقي الرابع بعد القرآن والسنة والإجماع. قال الآمدي: وبه قال السلف من الصحابة، والتابعين، والشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل، وأكثر الفقهاء والمتكلمين، وخالفهم في ذلك الظاهريّة، حيث أنكروا حجيّة القياس.

من أدلة الجمهور:
(1) قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) والاعتبار هو قياس حالة على حالة، وهو مأمور به بنص الآية والمأمور به واجب وعليه فيكون القياس حجة شرعية ودليلاً معتبراً يلزم العمل بمقتضاه.
(2) إرشاد القرآن الكريم في مواضع عدة إلى القياس كقياس النشأة الثانية على النشأة الأولى، وقياس حياة الأموات بعد الموت على حياة الأرض بعد موتها بالنبات، وضرب الأمثال، والأمثال كلها أقيسة كقياس خلق عيسى من غير أب على خلق آدم من غير أب ولا أم.
(3) استعمال الرسول صلى الله عليه وسلم القياس في الأحكام ليدلنا على مشروعيته؛ كقوله للخثعمية التي سألت عن حكم حجها عن أمها التي توفيت قبل أن تفي بنذرها أن تحج، بقياس حق الله تعالى على الدين الذي هو حق العباد، وفي حيث الشاب الذي جاء يستأذن في الزنا، فقال له النبي (أتحبُّه لأُمِّكَ؟) قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: (ولا الناس يُحبُّونه لأُمَّهاتهم)، قال: (أفتُحِبُّه لابنتِكَ؟)، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: (ولا الناس يحبُّونه لبناتهم)، … إلى آخر الحديث، ومحل الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاسَ محارِمَ الشابِّ على المرأة التي يُريد الزنا بها.
(4) إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الحكم بالقياس في وقائع كثيرة، فقد كانوا يجتهدون في الوقائع التي لا نص فيها، ويقيسون ما لا نص فيه على ما فيه نص ويعتبرون النظير بنظيره. فقاسوا الخلافة على إمامة الصلاة، وبايعوا أبا بكر بها وبيّنوا أساس القياس بقولهم: رضيه رسول الله لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا، وكقياس أبي بكر رضي الله عنه الزكاة على الصلاة في قتال مانعيها، وقياس علي رضي الله عنه عقوبة شرب الخمر على القذف.
أمثلة معاصرة للقياس:
• قياس النقود الورقية والإلكترونية على الذهب والفضة في أحكامهما كأحكام الزكاة وأحكام الربا وغيرها لكونها جيمعا تستخدم كثمن للأشياء.
• قياس سحب الدم على الحجامة
واعلم:
• أنه لا يصار إلى القياس إلا عند عدم وجود النص أو الإجماع.
• أما التحقق من شروط القياس ودراسة مسالك العلة فمن مهام أهل العلم المؤهلين الذين استجمعوا شروط الاجتهاد.
• لا تزال الأمة بخير طالما قام علماؤها الأثبات بدراسة الحوادث الجديدة، واستنباط حكمها الشرعي وقياسه بما يشابهه مما ورد فيه النص لتبقى حياة المسلمين منضبطة بالشرع العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى